تأمّلات في المسألة العربية

د.كمال خلف الطويل

حطّ الشعور بفقد الدولة، والذي انفجر في ٩ نيسان ٢٠٠٣، وتنامى عبر سنوات الربيع العربي، رحاله أخيراً في دمشق؛ ليمأسس حالةً ودَّ كثيرون لو تجاهلوا كنهها، وأشاحوا البصر عن جوهرها، ألْا وهي: تلاشي الدولة القطرية، والنهائي… لماذا أقول التلاشي؟

١- لأن “الدولة”، بدايةً، لم تكن تاريخيةً وتليدة سوى في أربعة أشطار من العالم العربي: مصر والمغرب واليمن وعُمان.. ما تبقّى كانوا أكياس جهويات ومناطق ومحلّيات، بعضها جمعتها روابط أقربُ إلى هشّة وأخرى بالكاد، لكنها ليست -الروابط- مما أهّل لدولة جامعة. وحتى في تلك “التاريخية”، فواحدةٌ منها انفجرت من داخل، وثانيةٌ تؤذن باضطرابٍ عاصف لسوء المعاش، والأُخريات من صنف البجع السوداء

٢- لأن مشروع الدولة، عبر القرن المنصرم، ولكونه اصطناعي الطابع، فشل في أن يجعل منها -“الدولة”- ملاطاً جامعاً ل”مواطنيها”، فكيف إذا تعرّضت “دولة” لأنواء هجمة هيمنوية طلباً لرأس سلطتها المشاكسة، فتفنّن المهيمن في اللعب على شقوق الداخل مؤلّباً فئةً على الأخرى؟٣

– لأن تطور المجتمعات العربية، برغم تفاوتٍ ملحوظ بينها، تجمّد، في قليل أو كثير، عند ما كانه حين الخروج من الطقس العثماني. ما معنى ذلك؟.. أن القرابيات الرحمية (إثنية/عرقية, وعشائرية, وجهوية) والروحية (طائفية, ومذهبية) لبثت الناظمة لإيقاع المجتمعات،

بتوازٍٍ تكاذبي مع تستّر سُلطها – بالوعي، أم غالباً بدونه – ببراقع الحوكمة واليسارية والليبرالية واليعربية والعلمانية. كان الاستثناء الوحيد، خلال القرن المنصرم، انبعاث مشروع نهوض وحدوي عربي، قرابة منتصفه، قدّم لمجتمعات أشطار الأمة – في تاريخيّي ومصطنعي “دولها” – عروةً عليا سمَت فوق الولاءات الدنيا، وغلَبت على مفاعيلها – وإن لم تمحها -، وصارت قاسماً مشتركاً اجتمعت عليه معاشر كل تلك الأشطار. ومثلما كانت قيامة المشروع رافعة ارتقاء كان ضربه ثم انكساره – وعلى مدار عقدي السبعينات والثمانينات – إيذاناً بنكوص الأمة إلى مِللها ونِحلها وأعراقها

٤- لأن اختلال موازين القوى، سواء بين فواعل بيت مشروع النهوض الوحدوي، أم بناة و/حماة منازله الكثيرة؛ وبين المهيمن الكوني، كان له فعل تهديده الاثنَين، بل وإلحاقه الهزيمة بالأول الجامع، وتفكيكه سُلط قطريّيْن كثر؛ ما عنى تهشيم “دولهم”، بواقع تماهي السُلط بأشباه الدول تلك. أمضي أبعد لأخلُص من تلك المُدخَلات بمُخرَج ألّا من سبيل لبناء دولة قطرية, ناهيك بقومية, والهيمنة الغربية باسطة أجنحتها فوق مدار العرب/اسلامدار. وقائع الحاضر الدراماتيكية تُبصر الأعمى, فضلاً عن المتعامي

٥- لأن سقوط ذلك المشروع النهضوي التوحيدي، أي بقاء العرب أمة ناقصة التكوين (بلا دولة قومية) فاقم من تدهور أحوال أشطارها القطرية “الدولانية”، فبات ما كان تصوّرها مداميك توحيد – أي القطرية – هي ذاتها في مهبّ الريح. والحال أن تلازم المسارين: تلاشي الكينونة القطرية وغياب الآصرة القومية هو بالضبط ما نحن فيه وعليه الآن.

ولعل توصيف ذلك بدقّة أول الطريق لتبيّن مخارجه

6- لأن قسطاً وافراً من “النخب” المتنفّذة في منظومات الحكم والفكر عبر العالم العربي, مدنيةً كانت أم عسكرية, واظب على استمراء احتلال “الغربية المركزية” العقلي والمعرفي لها, بدعاوى الحداثة وما بعد- الحداثة, دون ادراك أن مَن احتلّ العقل ملَك دفّة البلاد, مهما تدثّر بعباءات التحرّر والوطنية, وبواقع أن تلك الدعاوى ما هي سوى طلاءات قرابياتطيب، ما العمل؟.. الحقّ أنّ السؤال ذاته استبطن حتمية توفّر وتوفير اجابة حاسمة عليه، رغم قناعتي بانعدام الحتميات التاريخية. لكن ظرف العرب الآن لا يترك – استثناءً – فسحة شكّ في تلك الحتمية: نتحدّث عن أمّة فتيّة من ٤٠٠-٤٥٠ مليون, ماكثة في قلب الدنيا، تحتاج ارادة سياسية فاعلة لدى بعض من سُلط أشطارها المركزية, تقيم معها وبها صرحاً أو صروحاً تملأ الإطار الفارغ. وبتحديدْ، أتصوّر ثلاثة سيناريوهات ممكنة:

١- أن تقود سلطة السعودية عملية تحويل مجلس التعاون الخليجي إلى اتحاد فدرالي ضمّ دوله واليمن في “اتحاد الجزيرة العربية”، وراعى في بنيانه حقّ الكبير والصغير من مكوّناته. كيانٌ كبير قوامه ٦٥ مليون مواطن، وفيه الحرمين الشريفين، وعجّ بثروات أحفورية ومعدنية وزراعية وافرة، وأطلّ على بحار ثلاثة ومضيقين، وحاذى سوراقيا العربية، وشاطأ وادي النيل والقرن الافريقي، وحدّ اسرائيل؛ كفيلٌ بأن يقود – عربياً – العرب/اسلامدار. لاتحتاج السعودية أن ترهن دفاعها ومالها للمهيمن الكوني، ولا أن تخفض جناح الذلّ من المسكنة لوكيله الاقليمي، إسرائيل, وهي قادرةٌ كلّ القدرة أن تشقّ نهجاً استقلالياً لُحمته أن قوتها من قوة محيطها، وسداه أن ثروتها عرضةٌ لسوء التدبير ما لم يكن نفعها منسحباً عليه، وحرصاً على ذاتها قبْله. ليس من سبب يحجب عن السعودية ضرورة وإمكانية إنفاذ عملية التوحيد تلك، وبعلم أن في البال محاولةٌ متردّدة سابقة لها منذ ستة عشر عاماً. لم يعد للتردّد مكانٌ بعد. أقول لأميرٍ معلوم: اعقلها وتوكّل

٢- أن تصل سُلط سوريا والعراق الى تبيّن حقيقة ساطعة لكلّ ناظر: لا حياة لأيٍّ منهما دون اتّحاده مع الآخر؛ بل والنماء – لا محض البقاء – ميسورٌ بلا حدود, إنْ اتّحدتا. كمْ ضاق قميص كل واحدةٍ على ما فيه من قرابيات, وبلغ اهتراؤه مبلغ البلْي. لقد مضى على عراق- ما بعد الاحتلال ما ناف عن عقدين, وما انفكّت ثروته تحت الاحتلال المالي الأمريكي, ليصرف سدنته منها لميزانية العراق نقداً. قرابياته في تدافع تناحري متواتر, ونفط شماله مسلوب, وحوكمة ادارته سائبة, وفساد نخبه الحاكمة أسطوري. أهذا عراق أم قطعة جبن سويسري لنهُّاب وسُرّاق, من المهيمن الى القرابي؟. أمّا سوريا, فأقصى ما يمكن ادراكه أن تنجو من مباضع التقسيم الخرائطي, قَرابي المرجعية؛ أمّا الحلم بدولة فليس سوى حلم ليلة صيف, لانتفاء شرائطها. لقد بات التَوق, في الشطرين, الى سوق كبير وكيان كبير, ومعهما مثَلٌ أعلى جامع, حاجةً لا ترف. هنا أيضاً، من مَلك ارادة سياسية فاعلة لا يقف في وجهه عائق؛ لا المهيمن الكوني ولا الجوار الاقليمي المسلم. لا بل أنني أرى في صيرورة كهذه مبعث ارتياح أمنو-ستراتيجي للأخير, سيما وهي مفاعل تكامل مع مكوّنَيه: تركيا وايران

3- أن تفيق النخب المتنفّذة في مصر الى حقيقة ألّا مستقبل لمصر بدون عالمها العربي,

وأن سِمتي الضعة والتبعية اللتين استمرأتهما لعقود أربعة ونيّف وصلتا بها وأوصلتاها الى حال لا يسرّ صديقاً, فما بالك بأخْ. مصر وحدها ما عاد في وسعها أن تقود محيطها بمفردها. هي قعيدةٌ بدون اثنتين – أقلّه – من دول المركز: السعودية والعراق وسوريا والجزائر, وتحديداً السعودية وسوريا. لكن نقطة البدء لها هي فيها, وفيها أولاًتُرى هل وصلت تلك “النخب” الى حدّ فهم وتلمّس وجوب الالتزام بالمطلوب من شرائط نجاة؟ لست واثقاً؛ لكن البجعة السوداء رابضة هنا كإن وعي السُلط تلك بما تحت أيديها من مقدّرات, ومن دون الحاجة الى الاحتكاك الخشن مع الهلعيْن من ترجمتها ذلك الوعي الى إنفاذ (في البال خفوت قدرة الرأسمالية – المالية السيطرة – المعولمة على إعاقة السعودية بالذات؛ لتشابك مصالح الطرفين), تكتوني الأثر في دفع أيّ من الأطروحات الثلاثة الى أرض الحقيقة. والحال أن تلاقي المشاريع الثلاثة يصبح تحصيل حاصل مع اكتمال أركانهامفتاح الأمر كلّه وعي الكلّ, حكّاماً ومحكومين, أن في فلسطين معراجهم الى عُلى أو مقفَزهم الى وِِهاد. ليس في ذلك تنميق عبارة بل تقرير حال؛ فلقد وصلت منظومة اليمين الشعبوي القومي, المتوسّدة لمقاليد الحكم في الولايات المتحدة, الى اقناع نفسها بأن “فرض السلام بالقوة” على العرب بات في متناول اليد, وأن هامش الحلفاء- جونيور في الإقليم لم يعد ذو اعتبار لديها, وأن تعريف “السلام” عندها عنى الاستتباع الاستعبادي للعالم العربي, بكل ما للعبارة من معنى؛ أي فاض بأضعاف مضاعفة عمّا عرّفه بن غوريون في زمانه: انهاء حالة الحرب + حرية الملاحة في الممرّات المائية + قوات دولية – غير قابلة للسحب – على الحدود. ففي المقابل, صيغة المراد الآن: إسرائيل قائدةً للإقليم, متوسّعةً فيه كما تشاء, ووكيلةً عن مرجع الهيمنة الكوني في شؤونه ليست تلك المرّة الأولى التي رست فيه أمّة, عربية أم غير عربية, في القاع؛ فالحيّة منها تُبارحه الى علٍٍ سما حتى فوق ما بلغته من سابق سامق

المصدر: افتتاحية شهرية “المستقبل العربي” – عدد آذار ٢٠٢٥/ الوعي العربي

زر الذهاب إلى الأعلى