
ليجتهد أصحاب الرأي بمرجعياتهم المختلفة والمتعدّدة في فهم إرادة الإبادة التي تمارسها الصهيونية في فلسطين، وليجتهدوا في الاقتراب من شطحات ترامب الكاشفة جوانبَ من الخطط التي يرسم لمواجهة المقاومة الفلسطينية، ومواجهة مختلف التحوّلات الجارية في المحيط العربي. وليجتهد المحلِّلون السياسيون في توصيف السياسات الشعبوية الجديدة وخياراتها المتوحّشة في الولايات المتحدة، وفي الغرب الأوروبي، وكذا تجاوزها لمقتضيات القانون الدولي. وقد أصبحت هذه السياسات اليوم عنواناً بارزاً في الفوضى السائدة في المشهد السياسي العالمي، ولا يمكن إنكار تأثيرها المباشر في صور الصراع الدائر اليوم في فلسطين ولبنان وسورية. ليبحث علماء السياسة والاجتماع ومؤرّخو الراهن، في نظام تطوّر آليات العمل السياسي والعمل الدبلوماسي والحربي، منذ نهاية القرن الماضي، من أجل تشخيص طبيعة التحوّلات الجارية في العالم، ومختلف النتائج المترتبة منها في دوائر الصراع القائمة في عالمنا، وفي رأسها بؤرة الصراع المُشخَّصة في الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، وما خلَّفه من آثار في المشرق العربي. وليبحثوا أيضاً في مبرّرات الانحياز التام الذي جعل من الدول الكبرى في الغرب، تنحاز كلّيةً لمشروع الصهينة، الذي يجري توطينه في المشرق والمغرب العربيَّين.
أثارت الطريقة التي عبّر بها ترامب عن مواقفه من فلسطينيّي غزّة، كما أثار سياقها السياسي والحربي، أسئلةً عديدةً في السياسة والثقافة والأخلاق، تستحقّ التعقّل في ضوء تجارب التاريخ وإشكالات الحاضر. وفي مقابل ذلك، برزت ردّات فعل متعدّدة ومتناقضة، في موضوع الأهداف المقصودة من وراء إطلاقها، في الأيّام الأولى لولايته الثانية. لن نستعرض هنا مختلف المواقف التي حاولت قبول أو رفض ما جاء في موقف ترامب، إننا نفكّر في المواقف التي اختار أصحابها الصمت، وهي مواقف تعكس دهشةَ وحيرة أصحابها أمام الغرب، في المواقف التي جاءت بلسان ترامب، فقد استمع هؤلاء لمواقفه بعد سنة ونصف السنة من الدمار الذي ألحقته أسلحته بالأراضي الفلسطينية في غزّة، وبعد الجرائم التي ارتكبتها المليشيات الصهيونية في فلسطين. استمع العالم لتصريحات ترامب زمن الهدنة المعقودة اليوم بين الصهاينة والمقاومة، استمعوا له وهو يدعو كلّاً من الأردن ومصر لاستقبال من تبقّى من فلسطينيّي غزّة، ويضع برنامجاً لترتيب مستقبل قِطاعٍ في الأرض الفلسطينية.
الصمود والمقاومة طريق طويلة وشاقّة، إلا أنها مُعادِلة لطموحاتنا الكُبرى في استرجاع الحقوق المغتصبة
وإذا كان مشروع القمّة المرتقبة، في سياق الشروط والسياقات التي ستُعقد فيها، يمهّد لمخرجات لا نتصوّر، في ظل الراهن العربي، أنها يمكن أن تستوعب أفق المقاومة والتحرير، بحكم أن الأمر المؤكّد اليوم يتمثّل في أن المشروع الوطني الفلسطيني يُعدّ الغائب الأكبر في القمّة المنتظرة، وهو الغائب الأكبر أيضاً في واقع أحوال الصراع المتواصل اليوم فوق أرض فلسطين المحتلّة. فقد تكلّم ترامب بهدف تعزيز خيارات الكيان الصهيوني، وإخبار العالم أجمع، أنه يتوخّى تدبير الصراع الصهيوني الفلسطيني، وتهجير الفلسطينيين من أرضهم، بالصورة التي يزداد فيها حضور دولة الكيان الصهيوني الاستعماري، تحدّث باسم مشروع أعدّه خبراء الإدارة الديمقراطية والإدارة الجمهورية، وخبراء مراكز البحث الصهيونية، وهو مشروع ينسجم مع روح الخيارات الصهيونية. ولم تكن المواقف التي كشف عنها، وهو يعلن رغبته في تحويل قطّاع من قطاعات أرض فلسطين إلى “رﻳفييرا” للسياحة في شرق المتوسّط، سوى تعبير عن وعيه بنهاية زمن الإسناد العربي للقضية الفلسطينية.
نفهم مواقف ترامب في إطار الحرب المتواصلة في فلسطين، زمن الهدنة بين قادة الكيان الصهيوني وقادة المقاومة الفلسطينية، أنها امتداد وتكملة لما يقع منذ 7 أكتوبر (2023). إننا أمام حرب تشمل مختلف قطاعات أرض فلسطين، إذ يواصل جيش الكيان الصهيوني اقتحام البيوت في الضفة، كما يواصل حملات اعتقاله للفلسطينيين في مختلف المدن والقرى والمخيّمات الفلسطينية. وعندما نُدرج إعلاناته ضمن مناخ الحرب المتواصلة، نستوعب جيّداً مشروع الصهاينة المتّجه نحو توسيع أوجه الحضور الصهيوني في المشرق العربي، وندرك أن المواجهة المطلوبة اليوم تستدعي مقوّمات جديدة يكون بإمكانها متى توافرت تجاوز الحروب والمقاومات السابقة.
نتصوّر أن الأحداث الجارية اليوم، والمواقف المُعلَنة، تقتضي أولاً وقبل كلّ شيء، إعادة بناء الوحدة الوطنية الفلسطينية، ورسم ملامح المشروع الوطني الفلسطيني، في ضوء التحوّلات الحاصلة، مع مواصلة الحرص على إعادة تكوين موقف عربي واحد، فلا خلاص للعرب من فلسطين ولا خلاص للفلسطينيين من العرب، ورغم أن المقوّمات التي أوردنا ترسم المعالم الكُبرى لموقف طوباوي، فإننا نقبل بذلك، فاليوتوبيا تُعدّ أحد الأوجه الصانعة للسياسة والتاريخ، وهي بمثابة تعبير عن صعوبة ما نتطلّع إليه، في سياق شروط ومعطيات ترسم الحدود العامّة لما نفكر فيه، ويُعدّ التشبّث بالبعد اليوتوبي لقضيتنا جزءاً من آليات الدفاع المؤقّت، الذي يسمح بتحويل بعض أوجُه الطوبى إلى أوجُه للفعل المرتبط بطموحات الصمود والمقاومة.
لنعانق خيار احتضان يوتوبيا التحرير، فنخلق مناسبةً تاريخيةً للتفكير مجدّداً في المشروع الوطني الفلسطيني
لا بديل اليوم لخيار الصمود والمقاومة، فعندما نحتضن يوتوبيا التحرير ونتشبث بالآمال الكبرى لما رسمه “طوفان الأقصى”، نكون قد اخترنا طريقاً طويلةً وشاقّةً، إلا أنها مُعادِلة لطموحاتنا الكُبرى في استرجاع الحقوق المغتصبة، إنها طريق محاصرة ووقف جنون وشطحات الصهاينة ومن معهم. لم يعد الفلسطينيون وكلّ الذين يحتضنون اليوم طوبى التحرير والعودة في الوطن العربي وفي العالم، لم يعودا ينتظرون بيانات مؤتمرات القمّة العربية. فكم قمّة عربية عُقِدت طيلة سنة ونصف السنة من القصف والحرق والتدمير في فلسطين، ولم يتحرّك العرب لمواجهة نيران الحرب المشتعلة؟ وكم قمّة عُقِدت، ولم تثمر موقفاً يفضي إلى نفض اليد من الاتفاقات الإبراهيمية، التي منحت الصهاينة إمكانية اختراق الأرض العربية، ومزيداً من الاقتراب من المشروع الصهيوني في بناء شرق أوسط جديد؟
لنعانق خيار احتضان يوتوبيا التحرير، ولنبحث في السبل التاريخية المساعدة على ذلك. فلا وقت للبكاء ولا لنفض اليد، حتى ولو اقتضى الأمر الانخراط المؤقّت في لحظة كمون، لحظة صمت، نتصوَّر أنها تُشَكِّل في أزمنة حركات التحرّر مناسبةً للمواجهة والسؤال، مواجهة الذات والمصير، ورسم آفاق الطريق المُنتَظرة. نقصد بذلك اقتناص أو خلق مناسبة تاريخية للتفكير مجدّداً في المشروع الوطني الفلسطيني، وشروطه الجديدة، وأدواته المناسبة لسياقات ما أصبح يحيط به اليوم، أي لسياق الراهن العربي والحال الفلسطيني.
المصدر: العربي الجديد