غابت المؤسسات الأمنية في الأيام التي تلت انفجار مرفأ بيروت يوم الثلاثاء الماضي، ليتولى المواطنون، الحلول مكانها والعمل على تنظيم أنفسهم لرفع ما تيسر من الدمار ومساعدة العائلات المنكوبة والمهجرة. لكن هذه المؤسسات حضرت أمس السبت بقوة في الشارع، مبدية حرصاً على منع تنظيم تشييع شعبي كان مقرراً لضحايا التفجير.
ومع حلول الساعة الرابعة من بعد ظهر أمس، الموعد المحدد لانطلاق التشييع والتظاهرات، كانت قنابل الغاز تنهمر بكثافة على المجتمعين في وسط بيروت من دون أن تنجح في تفريقهم، لا سيما جراء الحشود الكثيفة التي شاركت في فعاليات “يوم الحساب” والذي رفعت فيه مجسمات لجميع السياسيين معلقين على المشانق، كرسالة بضرورة نيلهم العقاب.
وفي موازاة هذا المشهد في الشارع، كانت السلطة السياسية، قد أفصحت منذ أول من أمس أنها ترى في الفاجعة التي خلفت 158 قتيلاً، وأكثر من 6000 مصاب، ولا يزال هناك 21 مفقوداً بحسب أحدث أرقام وزارة الصحة، “فرصة” يجب استثمارها في كسر الحصار على السلطة وحزب الله، لا سيما بعدما توالت في الأيام الماضية الزيارات لمسؤولين غربيين إلى لبنان، بالإضافة إلى اجتماع دولي سيعقد اليوم، ويشارك به الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لبحث سبل دعم لبنان. وأعلنت الرئاسة الفرنسية، لوكالة “فرانس برس” أمس السبت، أنّ مؤتمر المانحين المخصص لمساعدة لبنان والذي تنظمه باريس بالتعاون مع الأمم المتحدة، سيُعقد اليوم الأحد عبر تقنية الفيديو كونفرانس.
وستشارك المؤسسات الأوروبية في هذا الحدث من أجل تعبئة مساعدة إنسانية طارئة لسكان بيروت، فيما كتب الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تغريدة أنّ المؤتمر سيجمع “الرئيس (ايمانويل) ماكرون، والمسؤولين اللبنانيين ومسؤولين من أماكن أخرى في العالم”، مؤكداً مشاركته فيه. وأضاف ترامب “الجميع يريد المساعدة”، مشيراً إلى أنّه تباحث مع نظيره الفرنسي بشأن مبادرة المؤتمر، فيما قال مسؤول في قصر الإليزيه، أمس السبت، إن ماكرون أبلغ ترامب بأن سياسات الضغط الأميركية يمكن أن يستغلها “حزب الله”، موضحا أن “مؤتمر المانحين الخاص بلبنان سيجمع أموالاً لإعادة بناء بيروت وتقديم مساعدات غذائية وبناء المدارس والمستشفيات وتوفير التجهيزات الطبية”. وتابع “فرنسا تعتقد بوجود أدلة كافية لافتراض أن انفجار بيروت كان حادثاً”. وكان ماكرون تعهد أمام اللبنانيين خلال زيارته الخميس الماضي أنّ الدعم لن يذهب إلى “أياد فاسدة”. وقال مصدر دبلوماسي إنّ المساعدات ستتمحور حول الاحتياجات الغذائية والبنى التحتية.
قمع المحتجين
واستخدمت القوى الأمنية، أمس السبت، قنابل الغاز المسيل للدموع بكثافة في وجه المتظاهرين وسط بيروت، لمنعهم من الوصول إلى مقر مجلس النواب، فيما كانت ساحة الشهداء ممتلئة بالمحتجين، في مشهد يذكر بانطلاق الثورة في 17 أكتوبر/تشرين الأول. وردد المحتجون هتاف “الشعب يريد إسقاط النظام” و”ثورة… ثورة”. ورفعوا لافتات تقول “ارحلوا .. كلكم قتلة”. ونصب البعض مشانق مثبتة على قوائم خشبية كتحذير للزعماء اللبنانيين. ورفع محتجون لافتات خيّرت إحداها المسؤولين بين الاستقالة والشنق. وكان المحتجون دعوا إلى تجمع وسط العاصمة تحت شعار “يوم الحساب” وتشييع رمزي للقتلى، وهو ما استبقته القوى الأمنية بحشد عدد كبير من عناصر مكافحة الشغب والجيش، وحتى قوة من شعبة المعلومات.
في غضون ذلك، استطاع عسكريون متقاعدون وعشرات المحتجين من اقتحام وزارة الخارجية في بيروت، وعلقوا لافتات كتب عليها “بيروت مدينة منزوعة السلاح”، و”بيروت عاصمة الثورة”. وكانت مسيرة حاشدة انطلقت من أمام مبنى مؤسسة كهرباء لبنان، الذي يقع على مقربة من مرفأ بيروت مكان وقوع الانفجار، إلى ساحة الشهداء، أطلقت خلالها هتافات تطاول جميع القوى السياسية التي دمرت البلد اقتصادياً ونقدياً ومعيشياً بحكم قائم على الفساد والمحاصصة، وصولاً إلى التسبب بقتل اكثر من 150 مواطناً، وإصابة نحو 6000، وتهجير عشرات الآلاف من منازلهم المدمرة جراء الانفجار. ودعا المتظاهرون رؤساء الجمهورية ميشال عون والبرلمان نبيه بري والحكومة حسان دياب إلى الاستقالة، ومحاسبة كل الطبقة السياسية التي أوصلت البلد إلى الانهيار الشامل، وذلك خلال المسيرة التي تقدمها مشنقة رفعت للدلالة على أن كل المسؤولين يجب أن تعلق مشانقهم بعدما تسببت صفقاتهم وإهمالهم وتقاعسهم عن ارتكاب مجزرة بحق الشعب اللبناني.
“فرصة” عون ونصر الله
في هذه الأثناء، لم يتردد الرئيس اللبناني ميشال عون إلى جانب الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله أول من أمس في تصوير ما حصل في بيروت بأنه فرصة كسرت العزلة الدولية المفروضة على لبنان. وقال عون، أول من أمس، إن الحادث “فك الحصار المفروض على لبنان. اتصل بي أغلبية رؤساء الدول الفاعلين، وأعلنوا استعدادهم تقديم المساعدات المادية، وبدأوا بإرسال طائرات تحمل أدوية نحن بحاجة لها”. وعلى المنوال نفسه خرج نصرالله، في كلمة هي الأولى له منذ الانفجار أول من أمس، نافياً “وجود أي صواريخ أو مواد لنا في أي مخزن بالمرفأ، لا في الماضي ولا في الحاضر”، معلناً أن حزبه “ينظر بإيجابية إلى كل مساعدة وإلى كل زيارة للبنان، خصوصاً إذا كانت تأتي للدعوة إلى الحوار ولم الشمل والمساعدة”. وقال “من رحم المأساة، تولد فرص والتعاطي الدولي مع الحادثة فرصة يجب أن يستغلها اللبنانيون”. وأشاد بالتضامن الذي أبدته دول العالم، بما شمل زيارة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، معتبراً أن ذلك يتيح فرصة للبنان الذي يعاني أزمة اقتصادية ومالية عميقة.
في هذه الأثناء، أعلن الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، أمس السبت، من قصر بعبدا حيث التقى عون، أنّ هناك إحساساً كبيراً بالتضامن مع الشعب اللبناني، مشيراً إلى أنه قال لعون “إنكم أقوياء رغم الكارثة الكبرى”، وأبلغه “استعدادنا للمساعدة والدعم بما هو متاحٌ لدينا”. وأكد أبو الغيط أنه سيشارك في الاجتماع الذي دعت إليه فرنسا اليوم الأحد من أجل التحدث والتعبير عن الدعم للبنان. وقال “سأنقل إلى الدول العربية تقريراً كاملاً عن مشاهداتي وعن هذه الزيارة، وننوي طرح بند جديد على المجلس الاقتصادي والاجتماعي للجامعة للدعم المستمر والدائم للبنان”.
من جهته، أعلن نائب الرئيس التركي فؤاد أوقطاي، الذي يرافقه وزير الخارجية مولود جاووش أوغلو، بعد اجتماع مع عون، أن بلاده مستعدة للمساعدة في إعادة بناء المرفأ. وأضاف أن ميناء مرسين التركي المطل على البحر المتوسط مستعد لمساعدة لبنان في خدمات التخليص الجمركي وتخزين الشحنات الكبيرة لحين إعادة إعمار مرفأ بيروت. وتابع “قلنا إنه يمكن نقل البضائع بسفن أصغر ووسائل نقل أخرى من مرسين إلى لبنان”. وأعلن أن طائرات الإسعاف التركية يمكنها نقل الجرحى اللبنانيين إلى أنقرة لتلقي العلاج.
بدوره، توجّه رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال بعد وصوله إلى بيروت، إلى اللبنانيين بالتأكيد على أن الاتحاد الأوروبي الذي خصّص 33 مليون يورو للمساعدة، “يريد أن يقف إلى جانبكم ليس فقط بالتصريحات… بل بالأفعال”.
كما بحث رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، في اتصال هاتفي مع عون، أمس السبت، الاحتياجات الإنسانية والطبية العاجلة ومتطلبات إعادة الإعمار في بيروت. وقال مكتب جونسون، في بيان، “شكر الرئيس عون المملكة المتحدة على الدعم الذي قدمته إلى الآن بما في ذلك تقديم خمسة ملايين جنيه إسترليني (6.5 ملايين دولار) في شكل تمويل طارئ وإرسال سفينة البحرية الملكية إنتربرايز”. وأضاف “اتفقا على العمل مع الشركاء الدوليين لضمان تعافي البلاد وإعمارها على المدى البعيد فيما يواجه لبنان أزمة مالية وفيروس كورونا وآثار هذا الانفجار المأساوي”.
إلى ذلك كان عون قد تلقى اتصالاً هاتفياً ليل الجمعة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي أكد له دعم الولايات المتحدة للبنان في هذه المحنة، معلناً إرسال ثلاث طائرات محملة بالمساعدات الغذائية والأدوية ومواد أخرى، وتعهد بتقديم المزيد والمساعدات الممكنة. وقال ترامب “تحدثت مع الرئيس الفرنسي (إيمانويل ماكرون) الذي يكنّ محبة كبيرة للبنان، وأنا لدي شعور قوي تجاه لبنان، ونقف معكم وإلى جانبكم، ولدينا فريق متخصص في الطوارئ والمساعدات سيكون في طريقه إلى لبنان عمّا قريب”، لافتاً إلى مشاركته في اجتماع اليوم الأحد لدعم لبنان في هذه الظروف بالتنسيق مع فرنسا.
وكان الرئيس اللبناني قد شرح لترامب المعطيات المتوافرة عن الانفجار في مرفأ بيروت والأضرار التي نتجت منه في البنى التحتية والدمار الذي حلّ بأقسام من العاصمة اللبنانية. وقال “نأمل ألّا يقتصر الدعم الأميركي على المساعدات الإنسانية الطارئة، فنحن نحتاج إلى العمل معاً من أجل الحفاظ على استقرار لبنان الأمني والاجتماعي والتعاون في سبيل النهوض بلبنان ومسيرة الإصلاحات قائمة، ونفّذنا العديد منها”. وأضاف “نأمل أيضاً التعاون معاً في محاربة الفساد الحقيقي ومحاسبة الفاسدين وتبادل المعلومات عن عمليات الفساد والتحويلات المشبوهة”. كذلك أعرب عن أمله في أن تساعد الولايات المتحدة في إنهاء ملف ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل.
في السياق، تبلغت الدوائر المختصة في بيروت نص المذكرة التي تقدم بها أكثر من 80 عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي ينتمون إلى الحزبين الديمقراطي والجمهوري إلى وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو. ودعا الموقعون على المذكرة إلى الإسراع في تقديم دعم إنساني إضافي للبنان، بالنظر إلى التحديات التي يواجهها، ولا سيما في المجال الصحي وتفاقم الأزمة الاقتصادية، بما في ذلك المساعدات الطبية وكل ما من شأنه المساهمة في معالجة الجرحى. وشددت على وجوب مواصلة البحث في كيفية متابعة مختلف أوجه الدعم الأميركي للبنان، بما من شأنه أن يؤكد الشراكة بين الولايات المتحدة ولبنان، وتحثّ الإدارة الأميركية على مضاعفة المساعدات الإنسانية للشعب اللبناني والمشاركة الفاعلة في الجهود الدولية لمواجهة تداعيات انفجار مرفأ بيروت.
المصدر: العربي الجديد