هذه الشعارات في سورية

عبير نصر

انطلاقاً من استحضار السياقات السورية الراهنة في تناول مخرجات “مملكة الأسد” البائدة، وأهمّها سياسة التمجيد التي بدأت بـ”قائدنا إلى الأبد.. الأمين حافظ الأسد” ولم تنتهِ بـ”الله… سورية… بشّار وبس”، بات واضحاً اليوم أنّ بعض السوريين أعادوا تدوير الهتافين السابقين “بالروح.. بالدم.. نفديك يا جولاني”. الشعارات الثلاثة شبه متطابقة، فالهيكل “التقديسي” حافظ على الجوهر وإنْ تغيرت نهايته لزوم التوافق مع الاسم الجديد، ليشكّل أداة ضغط نفسي هائلٍ تقوّض حرية الآخرين في نقد “التخندق الشعاراتي” الذي تجاوز هموم الواقع المأزوم وأولوياته. عموماً، يبدو “الكرسي المقدّس” بؤرة خصبة “للمطبّلين” يدورون في فلكه ويتفاعلون إيجاباً مع أهوائه السلطوية، وهو ما يصنع من أيّ قائد، مهما حسنت نياته، طاغوتاً كامل الدسم. لذا على السوريين، اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى، أن يتجنّبوا أسطرة الأفراد وإعادة إنتاج المواقف والهتافات، أيضاً تلمّظ سموم الترسانة الشعاراتية الموروثة. فالتأسيس لعبادة الفرد/ القائد يتكرّر في كلّ زمان ومكان، على اعتبار أنّ “القطيع الطيّع” هو من يخلق راعيه ذا العصا الغليظة غير “السحرية”، ما يطرح السؤال الملحّ: إذا كان للوعي الجمعي قدرةً على استنباط أصلٍ صريح لفكرة المواطنة فمن أين تُستنبط في الحالة السورية الغاصة بمظلومياتٍ محمومة وأحقاد ملتهبة؟

بالتساوق مع ما تقدّم ولفهم العلاقة غير المباشرة بين شعاري “الشرع… منحبّك بالله” و”شبّيحة للأبد.. لأجل عيونك يا أسد”، يتطلب ذلك فهمَ ما يسمى “الخضوع الطوعي” المكتسب من عهد الأبد البائد وعلاقته البديهية بحالة التمجيد المستجدّة، وهذا لن يكون متاحاً إلّا من خلال دراسات نقدية شاملة، تتناول ذهنية نظام الأسد الاستبدادي الذي أراد جعلَ السوريين عبيداً بقدر جهلهم بحرّيتهم، مثل كائنات مُدَجّنة بلا كينونة أو ماهية، تُصبح وتُمسي على التحلّق حوله. وعند البحث عن تفسيرات وتأويلات للأسباب التي تدفع السوري اليوم إلى تبنّي لغة التقديس التي ستمزّق، حكماً، ما تبقى من النسيج الاجتماعي السوري وتعزّز عدم الثقة، فإنَّنا سنقف عند دوافع كثيرة، أهمها مشاعر الغضب والقهر والاحتقان التي تبرّر سياسة الكيل بمكيالين، فالشعارات التي رفعتها شريحة معينة من السوريين احتفالاً بتنصيب أحمد الشرع رئيساً للمرحلة الانتقالية، وأبرزها “جولاني للأبد.. غصباً عنك يا أسد”، تبدو سلوكاً استفزازياً يعكس رغبة صريحة في ردّ الاعتبار والانتقام من إجرام النظام السابق ومواليه.

واضح أنّ الواقع السوري الحالي، بكلّ معطياته ومؤشراته، بدأ يدور ضمن حلقة التقديس إياها، التي تتجمّع فيها روابط متجذّرة تبدأ بالعبودية الطوعية وتنتهي بالتعريج على التاريخ الكامل لاستبداد نظام الأسد. فخلال خمسة عقود، هتف السوريون للأب والابن، وسوّقوا “طوعاً” شعاراتٍ تخفي كلّ خفايا قبح الديكتاتورية الأسدية. لذا يبدأ الخلاص بفكّ الارتباط مع هذه الثقافة السامة حتى تُنزع صفة القداسة عن كلّ قائد مهما كان عظيماً، فالشرع الذي قدّم نفسه خادماً للشعب، كيف للشعب أن يحوّله إلى طاغوت جديد؟ ولعل أدلّ مثال الفيديو الذي شغلَ وسائل التواصل الاجتماعي، وفيه معلمة تُظهر صورة أحمد الشرع على جهازها الخلوي، ليسارع التلاميذ “الأطفال” لتقديم التحية العسكرية له، في وقتٍ صادرت قوى “الأمن العام” أعلاماً حملت شعارات تمجيدية للرئيس الجديد، مطلقين تحذيرات للبائعين والأكشاك، لمنع انتشار هذه الظاهرة تحت طائلة المسؤولية. والسؤال الثاني في السياق: هل السوري، الذي تشرّب ثقافة الخوف والخضوع في عهد الأسد فبات لا يملك مثقال ذرّة من حريته، يتّعظ من تجربته المريرة التي أثبتت فشلها الإنساني والأخلاقي المريع؟

كثيرٌ من التفاصيل اليومية تعكس رغبة بعض السوريين في إعادة إيجاد طاغية، لكن بنكهة طائفية مغايرة

وبرصد سيكولوجيا المواطن السوري المستقر، أو بتعبير أدقّ “العبد الطائع”، واختياره الشعارات المتماثلة، (من أفيش الرعب الأشهر خلال حكم الأسد: “الأسد أو نحرق البلد” يأتي الشعار الجديد: “الشرع أو نحرق الزرع” ولو على سبيل الدعابة)، لا يسعنا إلا أن نتناول تمثلات السوري الذهنية ونسقه الإدراكي والسلوكي الذي لم يشفَ بعد من صدمة سقوط الأسد، لنجد أنه يبدو راضياً وسعيداً بتبعيته لأيّ قائد يتوهم أنه متماهٍ معه ويشاركه سلطانه، ما يطرح إشكالاً فلسفياً عميقاً عن بواطن “المطبّلين” المستندة إلى غريزة اللهاث ومنطق التملّق، بما ينطويان عليه من شهوات نفسية منحطّة تحوّل الأهداف النبيلة دائماً إلى النقيض تماماً.

وفي ضوء ما سبق، لم تكن سلطة الأسد سياسية وأمنية فقط، بل كانت دوماً منظومة عنفية تعتاش من الشعارات الرنّانة، وبلغ منها الانتفاخ حداً أنْ انفجرت في النهاية. أما المفارقة الأشدّ سخرية في السياق أنّ شعار “القائد الخالد” ولد من رحم القهر السوري. شعار بسيط لكنه فرّخ جهازاً قمعياً كامل الأوصاف، من الجيش العقائدي وليس انتهاء بالمليشيات الطائفية، جميعها أفرزت نوعاً فائضاً من سيولة الخضوع، لم تفقد جاذبيتها، تسبّح بحمد الحاكم وطول عمره، محوّلة الشعب السوري إلى جمهور أداتي وظيفته “التطبيل” عزّز سلطة نظام الأسد، ورسّخ أيديولوجيته. في المقابل، إنه عجزٌ عن النظر والتدبّر، لا يمكن فهمه أنّ الثورة السورية التي بدأت رحلتها بشعار “الشعب السوري ما بينذل” لن تكون أولوياتها الراهنة على ما يبدو إسقاط “الأبدية” و”دولة الفرد”، أو العمل على منع تغوّل أيّ دولة سلطانية متعالية على شعبها، ما سيدفع إلى انتكاسة جديدة تحصر السوريين في فضاءاتٍ من التيه والعماء، تستنطق الأحقاد المعلّقة ما ظَهر منها وما بَطُن، ومن الكارثي أن لا عودة منها، خاصة إذا ما تمّ التورّط في نموذج قمعي وفق مقتضيات الشعار الاستبدادي الأكثر براغماتية “من يحرّر.. يقرر”.

من الضرورة أن يتحرّر السوريون من لعنة شعارات “حكم الأبد” التي اتخذت بُعداً شخصياً أكثر منه سياسياً

ومهما يكن من أمر ما سبق، كثيرٌ من التفاصيل اليومية تعكس رغبة بعض السوريين في إعادة إيجاد طاغية، لكن بنكهة طائفية مغايرة. رغبة لم تأتِ من فراغ، بالطبع، بل إنها وليد ثقافة موروثة بدأت تدغدغ القلوب المكلومة كغطاء شرعي لتمجيد الشرع/ القائد، متجاوزين هتافات الثورة التي كانت تنادي “حرية للأبد.. غصباً عنك يا أسد”. واليوم تتفتّح قريحة أولئك على التفوه بالشعارات نفسها، وإنْ من شأنها إحداث قطيعة نهائية مع “مملكة الصمت والموت” وإعلان هوية جديدة. لكن، للأسف، يبدو أنها لم تخرج على النظام الأبويّ التسلطي. إذ وبعد قتل نظام الأسد، رمزياً ومعنوياً، من المفترض أن تتفتّح فرديّة السوري وتأملاته على ما يريد حقاً، وأن تكون رؤيته منطلق تغييرٍ قطعي في طرائق التفكير والأداء، ووسيلة لإعادة بناء سورية التي اختُزلت ذات يوم لـ”مزرعة الأسد”، ومن الفظاعة اختزالها مجدّداً إلى مسمّى آخر.

يؤكد توفيق الحكيم في مسرحيته “شهرزاد”، أنّ العبدَ يُقتل بتحريره. وعليه، من الضرورة بمكان أن يتحرّر السوريون من لعنة شعارات “حكم الأبد” التي اتخذت، بما لا يدع مجالاً للشك، بُعداً شخصياً أكثر منه سياسياً، وأن يتناولوا حالة عبوديتهم بما يتجاوز حالة “اللامنتمي المخدّر”، حتى يصحّوا سريعاً من أعراض اضطراب جنون ما بعد الأسد، أو ما سماه الباحث الفرنسي غوستاف لوبون “الوحدة العقلية للجماهير”، فعندما تتلاشى هيمنة الشخصية الواعية يتأثّر الشعب بلغة التحريض وتتقاذفه مشاعر الغضب ولذّة الأفكار الانتقامية، فينساق قطعاناً خلف من يستطيع أن يقوده ليعطيه شعوراً وهمياً بالأمان، أياً تكن أهدافه ونياته.

 

المصدر: العربي الجديد

زر الذهاب إلى الأعلى