العروبة والوطنية السورية

حازم نهار

إعادة اكتشاف العروبة في العصر الراهن.

– هل هناك طريق إلى اتحاد عربي؟

– الخوف على العروبة في سورية.

– صناعة الوطنية السورية.

لا يزال مفهوم العروبة إلى يومنا هذا، لدى القطاع الأوسع من العرب، يأخذ قيمته من الماضي أكثر كثيرًا من الحاضر، وكأننا إزاء مفهوم ثابت غير قابل للتغيّر، لا تاريخي، خارج الزمان والمكان، على الرغم من أن أي مفهوم هو حصيلة معارك ثقافية سياسية وحوادث سياسية وتفاعل مع الواقع الراهن وتجاوب مع تحديات المستقبل.

عمومًا، ظلت العروبة في الوعي العام تحتوي ضمنيًا مجموعة من العناصر؛ الخطاب الدفاعي ضد الآخر، ارتباطها بالإسلام، ارتباطها بالقبلية العربية، الرومانسية والروح الوجدانية، قداسة اللغة العربية، الرسالة الخالدة للعرب… إلخ، وهي العناصر التي حرمتها، عمليًا، الوضوحَ من جهة، والتجدّدَ من جهة ثانية.

– إعادة اكتشاف العروبة في العصر الراهن:

ليس جديدًا القول إن العروبة في حاجة إلى تخليصها من تراث الاستبداد، ومن الحزبوية، ومن اختزالها في الأيديولوجيات القومية، والذهاب بها إلى فضاءات إنسانية وكونية مفتوحة، وهذا غير ممكن من دون بيئة ديمقراطية. لا تحتاج العروبة إلى التقديس أو الأسطرة أو إلى حقنها بمشاعر الاستعلاء، بل إلى تجذير وتعميق بعدها الإنساني والكوني المنفتح على العالم والحداثة؛ عروبة معاصرة تؤمن وتعترف بالدول الوطنية، وباللامركزية الديمقراطية سبيلًا لإدارة مجتمعاتها، ما يعني أن العروبة أمامنا لا خلفنا، وأنها تحتاج إلى صناعة وإعادة إنتاج في ضوء الراهن والمستقبل.

تسييس وأدلجة العروبة يماثلان تسييس وأدلجة الإسلام، وكلاهما، أي التسييس والأدلجة، يؤدي إلى خفض العروبة أو الإسلام من فضاء عام، ثقافي وروحي، إلى أدوات سياسية خاضعة لمصالح هذه الفئة أو تلك، أو إلى أيديولوجية خاصة بحزب أو جماعة، ما يخرجهما من إطار الإنسانية والعصر، ويبقيهما حبيسين في العصبوية والانغلاق. أن يكون المرء مع الإسلام دينًا يختلف عن أن يكون مع تنظيم إسلامي بعينه ذي أيديولوجية إسلامية محدّدة، ومصمَّمة وفق مقاسات ووعي أصحابها؛ فتجسيد الإسلام في تنظيمات دينية ستنزل به من مساحة العام إلى الخاص، ومثله اختزال العروبة أيضًا في الأحزاب القومية وأيديولوجياتها، ما يفقدها، بالضرورة، عموميتها وانفتاحها على التجديد، ولتتحول، من ثمّ، إلى منظومة خاصة ومغلقة، وهذه تتحول تدريجًا إلى أداة قهر وظلم لأصحابها وللآخرين.

لا وجود للوطن من دون المواطن، والعكس صحيح. ولا وجود لهما من دون الدولة السياسية. وبما أنه لا توجد واقعيًا دولة عربية موحدة تعبِّر عن العرب، فإنه من المنطقي القول إن مصطلحات مثل “وطن عربي”، “مواطن عربي”، “الشعب العربي”، وغيرها ستظل بلا معنى، لأن وجودها مرتبط أساسًا بوجود الدولة. كذلك، مصطلح “المواطنة العربية” هو الآخر يفتقد إلى التجسيد، فالمواطنة تعني وجود حقوق وواجبات لهذا “المواطن العربي”، وتعني وجود علاقة قانونية حقوقية تربط المواطن بالدولة، ما يفترض بداهة وجود “دستور عربي”، وتعني أيضًا وجود “جنسية عربية”، لأن الجنسية عنصر أساسي في تحديد الهوية، وهذه لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال الدول القائمة بالفعل. كل ما سبق غائب، ونحن بالكاد اليوم نستطيع الحديث عن ثقافة عربية، لكنها أيضًا-في غياب الدولة العربية الموحدة أو في غياب الدول الوطنية- تبقى ثقافة كسيحة.

العروبة ليست نظرية فكرية أو منهج تفكير، وليست تعبيرًا عن العرق، فالعرق النقي الخالص غير موجود، وشعوب المنطقة كلها مزيج سلالي. العروبة فضاء ثقافي روحي، مثل الفضاءات الثقافية الأخرى في العالم (الثقافة الأوروبية… إلخ)، تنتعش وتغتني في أجواء الحرية، وتتجدّد دائمًا بالإبداع الثقافي العربي المنفتح على العالم والثقافات الأخرى، وتموت عندما يجري تسييسها أو تحويلها إلى أيديولوجية.

– هل هناك طريق إلى اتحاد عربي؟

تُربط النزعة الوحدوية أيضًا في الغالب الأعم بالخطر الخارجي، ويُنظر إلى الوحدة على أنها نتاج إرادوي لأحزاب بعينها أو لسلطات حاكمة بذاتها، ويُغفل بعد التطور الاقتصادي الاجتماعي وحاجته إلى الوحدة، وبعد نمو الإرادة العامة الحرة لشعوب تعيش في دول وطنية ديمقراطية.

عروبة بسماركية تغيب عنها الديمقراطية أو عروبة مؤدلجة يغيب عنها الواقع العياني، لا تريد أن ترى الدول الموجودة والمعترف بها عالميًا، بل إن الدول هذه، في العمق، دول مكروهة، وستظل مكروهة إلى أن تصبح الوحدة العربية واقعًا.

سورية غير موجودة في حسابات الرؤية السائدة إلا بوصفها أرضًا جغرافية مؤقتة، وطفرةً جينية مرذولة، ينبغي تصحيحها لتتوافق مع الأيديولوجيات “الصحيحة”. على ما يبدو، هناك خوف داخلي عام من نجاح الدولة “القطرية” في التحول إلى دولة وطنية ديمقراطية، خوف من انكسار حلم الدولة الكبيرة، فهل ينبغي أن تبقى سورية مريضة إلى أن تتحقق الوحدة العربية؟ مع هذا الفهم تصبح الحياة كلها مؤقتة في انتظار المعجزة، ولا ندري في أي جيل.

لا يمكن السير في طريق أي مشروع وحدوي من دون إعادة بناء الدول “القطرية” القائمة بالفعل على أسس إنسانية ووطنية وعقلانية وديمقراطية. إذا كان هناك مستقبل لهذا المشروع، فإن أكثر ما يخدمه هو تحويل الدول القائمة إلى دول وطنية ديمقراطية. إذا قُيِّض لطريق الوحدة أن يُفتح، فلا بدّ أن يكون عن طريق تلاقي الإرادات الشعبية، وهذا غير ممكن إلا في دول وطنية ديمقراطية، وربما يكون “الاتحاد العربي” أو “الفدرالية العربية” أو “الولايات العربية المتحدة” هدفًا مشروعًا شريطة تحويل الدول القائمة إلى دول وطنية ديمقراطية، وأن يكون هذا الهدف خيارًا شعبيًا ينمو ويتبلور في بيئة ديمقراطية.

– الخوف على العروبة في سورية:

يؤدي الخوف على العروبة من الاضمحلال ببعضنا إلى الاعتقاد بأن صونها يمكن أن يحدث من خلال تثبيتها صفةً أو هويةً أو أيديولوجيةً للدولة، أو من خلال تسويرها بجدار غليظ ضد “الغزو الثقافي”، وهذا عمل سهل، لكن نتيجته ستكون خسارة العروبة والدولة معًا، وسيحمل معه، بالضرورة، شكلًا من أشكال الإرغام والقهر. لو أردنا فرض “الجنة” بالإكراه لرفضها البشر، فضلًا عن أن الأفكار التي تفرض بالإكراه تشير سلفًا إلى ضعفها وعجزها عن ترسيخ نفسها وملاقاة العقول والقلوب بصورة حرة، وتوحي بنقص ثقة أهلها بأنفسهم، وبضعف قدرتهم على الحضور الثقافي في ساحة المجتمع المدني، ساحة الحريات والتعدّدية. لا خوف على العروبة إلا من اختزالها وحصرها في رمز أو اسم أو صورة أو أيديولوجية أو حزب أو دولة. لا خوف على العروبة إلا من كسل أهلها وتقاعسهم عن الإنتاج الثقافي والعلمي.

حتى لو لم يكن في سورية إلا العرب، فإن اسم دولتنا المستقبلية ينبغي له ألا يحمل أي صفة تشير إلى عرق أو أيديولوجية أو دين؛ فمفهوم الدولة الحديثة لا يتقبّل أن يُقرن بأي صفة غير الصفة الوطنية/ العمومية. هل يمكن أن يكون للجمهورية السورية المستقبلية دور مهم في المنطقة العربية؟ نعم، أصلًا لا يمكن لها أن تستمر من دون هذا الدور؛ حقائق التاريخ والجغرافية والمصالح تفرض ذلك، ولا ينبغي لأحد أن يفرح أو يحزن إزاء هذه الحقيقة، فهذا أحد أقدار سورية. يُضاف إلى ذلك أن الناظر إلى سورية من خارجها، أي من العالم، لن يراها إلا دولة تسبح في الحضن العربي أيًا كان مستقبلها.

لا يمكن أن تنتعش العروبة في سورية من دون الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ فإعادة اكتشاف العروبة وضخ الدماء في عروقها غير ممكنين من دون أن تتحول سورية ذاتها إلى دولة وطنية ديمقراطية. ولا يمكن فهم تعبير “سورية أولًا” إلا في هذا السياق، أي في سياق الطريق العقلاني الذي يقرّ بما هو ممكن أو متاح بين أيدينا من جهة، والذي قد يفتح طريقين في آن معًا من جهة ثانية؛ طريق إلى صيرورة سورية دولة ديمقراطية لأبنائها كلهم، وطريق إلى شكل ما من اتحاد ديمقراطي مستقبلًا بين الدول الوطنية الديمقراطية في المنطقة العربية، لا في سياق تخلي سورية عن التزاماتها اللصيقة بها، تلك التي لا يمكن الفكاك منها.

– صناعة الوطنية السورية:

أسوأ ما يحدث في الأزمات هو انفجار البنية المجتمعية على حديث الهويات، وأخطر ما في الحديث هذا ركونه إلى الماضي والذاكرة على حساب الحاضر والمستقبل، خصوصًا عندما يُنظر إلى الهوية بوصفها صيغة ثابتة ومتكوِّنة سلفًا، ومن ثمّ ليس من دور للبشر الحاليين سوى النضال لتثبيتها كما هي أو كما وُرثت. هنا يغيب الحاضر والمستقبل عن الهوية، ما يعني استبعاد تجدّدها، والركون إلى حالة من الكسل الثقافي والمعرفي، والاستمرار باجترار الماضي. الهوية مفهوم تاريخي متجدِّد، وأي محاولة لحجره في إطار الخصوصية يقتل الهوية، الخصوصيات التي يُحتفى بها خصوصيات عدمية وثابتة، وبعيدة عن التفاعل الإنساني.

الوطنية السورية هي تصالح مع الذات الواقعية، مع الذات المعترف بها عالميًا، مع الذات الوحيدة التي يمكن أن تكون معبرًا عن الكل الاجتماعي السوري، وهي التعبير الوحيد الذي يتطابق مع تعبير الشعب السوري.

الوطنية السورية هي الانتماء إلى الفضاء العام السوري، إلى الدولة السورية القائمة بالفعل، وإلى أرضها وشعبها وثقافتها؛ ثقافتها المتنوعة التي هي حصيلة تفاعل الثقافات، العربية وغير العربية، وانفتاحها على الثقافة الكونية بأبعادها كلها.

يمكن أن يكون تعبير “الثقافة السورية” تعبيرًا أعم وأشمل بالنسبة إلى سورية والسوريين بوصفه تعبيرًا عن اجتماع وتفاعل ثقافات متنوعة، إحداها الثقافة العربية، وأكثر انسجامًا وتناغمًا مع المفاهيم الأخرى الممكنة في سورية (الدولة السورية، الشعب السوري، المواطن السوري، الأمة السورية… إلخ)، لكن هذا التعبير نفسه، أي “الثقافة السورية”، يمكن أن يكون، في الآن ذاته، إحدى تنويعات الثقافة العربية بمفهومها الواسع والديمقراطي والمنفتح والمتجدِّد، خصوصًا أنه لا توجد لسورية لغة خاصة بها مشتقة من اسمها “لغة سورية”، بل لغة عربية تشكل وعاء الإنتاج الثقافي للسوريين العرب، ولكثير من السوريين غير العرب.

الوطنية السورية مفهوم وثيق الصلة بالدولة الحديثة، ويشير إلى صفتها الأساس؛ العمومية، وهو مفهوم مغاير لمفهوم “القطرية” الذي يحضر بكثافة لدى القوميين العرب للتعبير عن حال التجزئة المرفوضة. هنا من المنطقي، والمهم أيضًا، ألا نستمر في التعاطي مع نتائج سايكس بيكو بعقلية تستند إلى شكل من أشكال تأنيب الضمير ومعاقبة ذواتنا أو إلى روحية التبرؤ من منتجاتها أو كرهها ونبذها (سورية، لبنان، فلسطين، الأردن، العراق)، الأمر الذي يجعلنا نشعر بالخيانة للعروبة وارتكاب الخطيئة عندما نفكِّر أو نريد أن نبني سورية دولة وطنية ديمقراطية. لا أحد يستطيع أن يبني شيئًا من شيء يكرهه أو يستثمر في شيء يشعر تجاهه بالخطيئة. لا توجد دولة في التاريخ ظلت حدودها صامدة بلا تغيير، وتتجلى العقلانية بالاستثمار في بناء ما بين أيدينا دولًا كاملة الأهلية، وهذه قناعة ينبغي لها أن تملأ العين والعقل والقلب.

على مستوى الشعور العاطفي، لا خوف من تعدّد المشاعر، بل من الطبيعي أن تتعدّد، ويمكنها أن تتكامل بدلًا من أن تتناقض؛ فالشعور بالانتماء إلى مدينة أو قرية سورية لا يلغي الشعور بالانتماء إلى سورية، والانتماء الحقيقي إلى الأخيرة عندما تصبح دولة وطنية ديمقراطية لا ينهي الانتماء إلى فضاءات أوسع أو يتناقض معها، بل على العكس سنكون أمام انتماءات صحية جديدة ومتجدِّدة، بما فيها الانتماء إلى العروبة والإنسانية.

 

المصدر: العربي الجديد/ صفحة حازم نهار

١٥ يوليو ٢٠٢٠

زر الذهاب إلى الأعلى