عن المسيحيّة والتبشير في المغرب

عبد القادر الشاوي

تخريج رائج، لا سند له، يَدَّعي أن المسيحية في المغرب ثاني أكبر الديانات انتشاراً بين السكان بعد الإسلام، أي ما مفاده بأن بضعة آلاف من المتدينين بالدين المسيحي يحتلون، أمام مطلق المتدينين بالإسلام، المركز الثاني في التأويل الإيديولوجي لحالة المعتقد الديني في المغرب. ويصبح هذا التخريج، لنسبيّته والادعاء الثاوي فيه، من دون أدنى قيمة عندما يعترض المحلل بأن المتدينين بالدين اليهودي مثلاً، لانتشاره وأبعاده التاريخية ولتداخله، من الناحية الاجتماعية والثقافية أيضاً، مع معتنقي الدين الإسلامي، كان قد تجاوز في بداية استقلال المغرب (1956) نصف مليون مُعْتَقِد، وأن نسبته، رغم التهجير الذي خضع له اليهود بعد ذلك، غيَّر كثيراً من النسب المحفوظة لهم ولغيرهم من الأقليات الدينية في جميع المجالات التي كانت لوجودهم في المجتمع، وعلى صعيد المؤسّسات وفي مختلف المناطق التي استوطنوها تاريخياً. والمعنى من قول هذا عموماً الدفع بإحصاء ما لا يَعْتَدّ بجدواه، أو أهميته، إلا من يقوم به من المبشّرين، المرخص لعملهم والعاملين منهم في السرّية، فيعتمدونه أساساً لمهمة الدفاع الديني عن الأقلية وحماية شعائرها، أو المطالبة بتوفير الحرية لملّتها. ومعلوم أن القوى الاستعمارية الكبرى عندما اقتسمت بينها منطقة شمال أفريقيا والقارّة الأفريقية نفسها استندت إلى ذلك، وفي بعض الحالات شرّعته، وفي بعضها الآخر “حرّرته” من سيطرة الاعتقاد الديني الذي برّر ضريبة الجِزْيَة، على سبيل المثال، المفروضة على رؤوسِ من دخل في ذمة المسلمين من أهل الكتاب.

… ما لا يُقال علانية في التخريج المذكور، وهو ذو طابع تبريري للتصديق على تعليلٍ ضعيف، أنَّ طابع التحول العقدي المسيحي الذي أصبح ينتشر في المغرب، بصورة علانية في بعض الأحيان، ومن خلال تصريحات فردية أو مواقع إعلامية ذات طابع ديني، (“مغربي ومسيحي” الذي يُبث عبر منصة يوتيوب، منظمة “جويس ماير التبشيرية”)، أمسى يهدّد، من منظور إيجابي في الادعاء، المظهر العام للانسجام الديني السائد المُتّبع (الإسلام السُّني المالكي) والمُوَثَّق في الدستور ديناً للدولة، وأن على هذه الدولة في المقابل أن تعترف فعلياً بالحرية الدينية، وهي موجودة في دستور المملكة لفظياً (حرية العقيدة)، وأن تستجيب للمطالب التي يرفعها المسيحيون المغاربة منذ فترة طويلة، وسبق لهم أن تقدّموا بها إلى “المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان” (حق تغيير العقيدة، حق تسمية الأطفال تسمية مسيحية، حق زواج المغربيات المسيحيات بمسيحيين أجانب، حق الاجتماع والعبادة، حق الحصول على الكتاب المقدس باللغات المحلية، حق تدريس أبناء المغاربة المسيحيين في مدارس خاصة) ولا تستقيم الديمقراطية، ولن يكون للعمل بها أية فاعلية أو جدوى، إلا بالإقرار بذلك. وأما على المستوى الإنساني العام، فلن يكون ذلك إلا في إطار من الحرية المكفولة المنصوص عليها في الفصل الثالث من دستور 2011، وفي القانون الجنائي، وغيره من القوانين المعمول بها اعتماداً على الملاءمة المفروضة مع القوانين والاتفاقيات الأممية، القطاعية والشاملة، التي توقع عليها الدول وتلتزم رسمياً ببنودها.

ما يُراد عادة من التصريح بالأرقام هو القول بالوجود، وفي ثنايا ذلك المطالبة بالاعتراف

يعزّز هذا التأويل أن للتصوّرات المسيحية، المعبّر عنها إعلامياً وحقوقياً منذ أمد، ما يصطلحون على تسميتها “التنسيقية”، أي الإطار المُهيكل الذي يسعى لتوحيد الرؤى وسبك المطالب والبحث عن السبل الكفيلة بتحقيق الأهداف المرسومة، علماً بأن غالبية تلك السبل هي إلى المخاطرة بالوجود أقرب منها إلى تحقيق المراد، خصوصاً في مجتمع تمكّن منه الدين منذ قرون، وسيطرت على ذهنية مواطنيه الما قبل ديمقراطية تصوّرات واعتقادات كثيرة يدور أغلبها حول المخطّطات والدسائس والحروب التي يقوم بها التبشير ودوره، المبني على الصراع الديني، في الاستمالة و”الإغراء”، فضلاً عن التوسّع المطرد الذي يحقق به تدريجياً، رغم المصادرة والطرد، ما قد يعدّ أسلوباً فعالاً لزحزحة السيادة المطلقة التي للدين الإسلامي، أو التشكيك فيها على الأقل. أما المعنى الآخر المرتبط بوجود “التنسيقية”، فهو إيجاد إطار “قانوني” (لم يُشرّع له بعدُ) بمقدوره، في الوقت المناسب، أن يضمن نوعاً من الشرعية الدينية المطلوبة، على غرار ما هو موجود وجوداً قانونياً في البلدان الأوروبية ذات الأنظمة “غير الدينية”، وبعض تلك البلدان تقوم رسمياً بتمويل الأنشطة الدينية وترعى مراكز عبادتها، وللمبشّرين في مجتمعاتها مكانة محكومة بأهم القوانين الضامنة للحرية الدينية الفعلية.

يشار إلى التنسيقية أيضاً في علاقة مع التقدير المعلن لعدد المسيحيين في المغرب. وفي تقارير الخارجية الأميركية حول الحرية الدينية، منذ سنة 2016 على الأقل، إشارات تتغيّر أرقامها نسبياً من إصدار سنوي إلى آخر، إلا أن التقدير العام في تزايد، وإنْ لا يصرّح به، في بعض الأحيان، خوفاً من إثارة حفيظة المتدينين بالإسلام، أو تجنّباً لإحراجهم، بما قد يُفَسَّرُ أنه الغلبة، ولو نسبية. إلا أن ما يُراد عادة من التصريح بالأرقام هو القول بالوجود، وفي ثنايا ذلك المطالبة بالاعتراف، وفي أقصاه، من الناحية الدلالية، التلويح بما لأهمية الدين المسيحي في الاختراق، ولفاعلية التبشير وأدواته في الاستمالة والإقناع، علماً أن البابا، في زيارته المغرب (مارس/ آذار 2019) نهى علانية، وربما شكلياً أيضاً، عن التبشير، ودعا إلى الحوار بين الأديان.

المسيحية يجب أن يكون لها وجود حق، أي قانوني معترف به رسمياً كديانة إلى جانب الإسلام، مع توفير شروط المنافسة المرعية بالقوانين الضامنة لها سلمياً

والذي يفهم، ولا يذكر لوجود كثير من الأدلة التاريخية عليه، أن الاهتمام بالوجود المسيحي في المغرب، وفي غيره من البلدان العربية ذات الطبيعة الدينية، هو اهتمام بالوجود التاريخي الذي كان للمسيحية قبل الإسلام منذ نهاية القرن الثاني الميلادي، بصرف النظر عن محدودية (أو شمولية) الانتشار الذي كان لها، وطبيعة الأوساط الإثنية التي آمنت بها إلخ. فَالقِدَم هنا والأسبقية التاريخية لهما في التعبير الدلالي ما يمكن وصفه بالأحقية المهضومة، لأن وراء التعبير الدلالي مقولة إيديولوجية توحي بالوجوب المفروض أن يتأسّس عليها، أي إن القدم لا يعني الرسوخ فقط، بل والاستمرارية كذلك. ويمكن أن نجد في التاريخ شيئاً كثيراً من العناصر الدالة على المقصود بالاستمرارية، ومنها ما تهيكل، بصورة واضحة، في القرن التاسع عشر، وأساساً منذ ظهور التقرير الفرنسي، الذي أُعِدَّ في سنة 1885، عن “دور المبشّرين في المشاريع التوسّعية لأوروبا في أفريقيا المسلمة”، واقتران ذلك بالاستعمار وأشكال توسّعه ومجال استقراره وهيمنته.

ولعلّ في محيط هذه الأحقّية – الاستمرارية، المبنية على القِدَم، حيثما يوجد عنصرٌ لا يثار إلا بالمناسبة، وهو عنصر الأمازيغ، الذي يُراد بذكره، قديماً وحديثاً، التذكير بقضية إشكالية ترتبط بمفهوم السكان الأصليين من جهة، وبحقيقة الوجود الثقافي واللسني والهُوِيَّاتي للأمازيغية في المغرب من جهة ثانية. أي بِمُرَكَّبٍ أول هو: التاريخ القديم في علاقة بالسكان الأولين، وبمِرُكَبّ ثانٍ هو: المجتمع الحديث في علاقة بالتأويل السياسي وغير السياسي لهوية من الهويات (الاعتراف من عدمه).

النَّاتِجُ أن المسيحية يجب أن يكون لها وجود حق، أي قانوني معترف به رسمياً كديانة إلى جانب الإسلام، مع توفير شروط المنافسة المرعية بالقوانين الضامنة لها سلمياً، أي (الحقّ في التبشير داخل المجتمع، لأن أغلب المسيحيين المغاربة على المذهب الأنغليكاني الذي يعتبر التبشير ركناً ركيناً في مشروعه الديني). والناتجُ الآخر أنَّ العنصر الأمازيغي في المغرب إنْ كان قد “خضع” للإسلام، في واحدةٍ من فترات وجوده على الأرض، “فمما لا شك فيه” أن المسيحية هي الأصلح له وأقوم لمعتنقيها في الحياة الدنيا.

نهى البابا، في زيارته المغرب (مارس/ آذار 2019) علانية، وربما شكلياً أيضاً، عن التبشير، ودعا إلى الحوار بين الأديان

الحقيقة أنَّ لهذا الناتج، بِوَجْهَيْه، أبعاداً سياسية يمكن تلخيصها في نقطتين: القول، باستمرار، أنَّ قمع الدولة المغربية وأسلوبها في محاصرة التبشير وطرد المبشرين قد لا يكون مفيداً، أو مجدياً، رغم حصوله المتواتر في الزمن، خصوصاً مع وجود مقتضيات لها طبيعة أممية يمكن أن تردع الدولة، مثلما يمكن أن تفرض عليها احترام العقائد ورعاية معتنقيها بمنطوق القانون والدستور، وهذا فضلاً عن أمر جليّ يتمثل بالدفع الديني – السياسي القائل بـ”تزايد” عدد المغاربة المقتنعين بالتخلي عن الإسلام والدخول في الديانة المسيحية، وقد يصبح العدد هنا من مؤشرات قوة التأثير الإيجابي، ولا يمكن لمفهوم “الردّة”، الذي يعاقب عليه القانون المغربي، أن يمنعه.

أما النقطة الثانية، فمنطوقها أن الديمقراطية ترتبط بالمسيحية أصلاً، وأن الحركات الإسلامية، في المقابل، لا يمكن أن تكون إلا حركات داعشية إرهابية. ويُستخلص من ذلك أنّ “المسيحية متسامحة، والإسلام متشدد في العقيدة والأحكام”، مثلما يستخلص أنّ “المواطن المسيحي يشارك في الانتخابات، ويطيع الحاكم، ويتقرب إلى الله بدفع الضرائب التي تفرضها الحكومة”. ولهذه النقطة أهميتها الراجحة في الدولة الدينية، لأنها قد تكون نابعة من فكرة جوهرية ترتبط بمفهوم الديمقراطية إن سادت في المجتمع، وفهمت في التطبيق على أنها، من بين مقوماتٍ كثيرةٍ تقوم عليها، تكافؤ الفرص في جميع مجالات الحياة، بما في ذلك العَقَدِيَّة، لأن شرعية الاعتقاد في الدولة الدينية، خلافاً لحالها في المدنية، تصبح حقاً لا وَهْباً يعطى لأقلية دينية بلا عِوَض.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى