تضليل بلا حدود

فاطمة العيساوي

كتب المدير العام لوكالة الصحافة الفرنسية فابريس فري في مقالة نشرتها صحيفة لو موند الفرنسية أن إلغاء خدمات التحقق من المعلومات في وسائط التواصل قبل الانتخابات الأميركية التي فاز فيها الجمهوري الشعبوي دونالد ترامب هو بمثابة إلغاء خدمات الإطفاء في لوس أنجليس قبيل الحريق الكبير الذي قضى على بيوتها. رغم أن الإطفاء لن يقوى على احتواء الحريق الهائل، إلا أن الاستغناء عنه كان سيحرم المدينة من وسيلة احتواء ومعالجة ثمينة.

ليس قرار ميتا (فيسبوك) ومنصة إكس (تويتر سابقا) إلغاء خدمات الرقابة على المحتوى مجرد قرار شعبوي غير موفق أو مرحلي. العلاقة بين السلطة السياسية وأثرياء التكنولوجيا بزعامة إيلون ماسك الذين أعلنوا الحرب على ما يسمونه قمع حرية التعبير أو “كارتيل” الرقابة ستؤدي إلى تعميق انتشار المعلومات المضلّلة ((amplification فضلا عن المساهمة في مزيد من القمع للأصوات الناقدة عبر الاستجابة لطلبات أنظمة قمعية أو منظومات عسكرية. قرار منصة أكس أخيرا تفكيك غرف التحقق من المعلومات المهنية لصالح ما أسمته الملاحظات المجتمعية (community notes) التي يرسلها مستخدمو المنصة تعليقاً على محتوى تغريدة بغرض تصحيحه حلقة جديدة في مسار التضليل. مساهمو هذه المجموعة الذين يفوق عددهم 800 ألف بإمكانهم أن يقترحوا إضافة ملاحظة تحت تغريدة لتصحيح بعض محتواها، إذا ما وجد عدد كبير منهم أن الملاحظة صحيحة وضرورية. وبذلك انتقلت عملية التحقّق من المعلومات من مهنية الصحافة وتقاليدها إلى شعبوية متطوّعين من مستخدمي المنصّة لا يبدو أنهم يتبعون أي قواعد سوى التوافق على الملاحظة الواجب إضافتها. التوافق الشعبوي عوضاً عن التدقيق المهني يفتح الباب واسعا أمام التلاعب والتضليل. اعتماد “فيسبوك” الآلية نفسها رغم تاريخ المنصة في الترويج وتورّطها في قضايا تلاعب باتت شهيرة يزيد القلق من تبعات نقل عمليات تقييم المحتوى إلى عهدة هواة.

ادّعاء ايلون ماسك أن منصّة أكس تعمل من أجل دعم حرّية التعبير رغم تراجع إيراداتها وانسحاب عدد كبير من وسائل الإعلام منها لا يتناسب مع تعاون المنصّة مع مطالب قمع أصوات ناقدة أو تعبيرات تعتبر غير مرغوبة. بحسب موقع المختص بتكنولوجيا المعلومات “ريست أوف وورلد” ((Rest of World).

قد تكون مرحلة “الحقائق البديلة” التي شكلت عنوان ولاية ترامب الأولى مجرّد بداية لفوضى من نوع آخر

وافق تويتر سابقا على 50% من طلبات قمع أصوات ناقدة قدمتها أنظمة قمعية بينما ارتفعت هذه النسبة الى 83% مع انتقال ملكية المنصة إلى إيلون ماسك، خاصةً من حكومات تركيا والهند، بالتزامن مع توقف تقارير الشفافية التي كانت المنصّة تصدرها عن نشاطها حتى عام 2022. في المقابل، خاضت المنصة ومالكها معارك مع أنظمة أخرى بحجّة الانتصار للحريات. في البرازيل، على سبيل المثال، قرّرت المحكمة العليا حجب المنصّة، بعدما رفضت الأخيرة طلب حجب أصوات اليمين المتطرف ودفع الغرامات المترتبة عن المخالفة. رد ماسك بمهاجمة القاضي الذي أصدر قرار الحجب مدّعيا أنه “قاض مزيّف”، وأن “النظام القمعي في البرازيل خائفٌ من معرفة الناس للحقيقة”. وكانت المحكمة العليا طلبت من “أكس” إغلاق عدة حسابات لليمين المتطرّف لنشر المنصة معلومات مضلّلة حول خسارة الرئيس السابق الشعبوي جايير بولسينارو في الانتخابات الرئاسية في البلاد التي تضم خامس أكبر كتلة من مستخدمي الإنترنت. حملات المنصّة ومالكها الأخيرة على حكومات وأنظمة بهدف إسقاطها، منها حملات ماسك الأخيرة ضد الحكومة البريطانية ودعمه مرشّحة اليمين المتطرّف في ألمانيا، حولتها من وسيط لنشر المعلومات إلى لاعب سياسي بالكامل.

الأخطر من ذلك كله استخدام هذه الوسائط وبرامجها في الذكاء الاصطناعي في عمليات عسكرية من نتائجها ارتكاب جرائم حرب. كشف تحقيق حديث للموقع الإسرائيلي الفلسطيني 972 Magazine+ بالتعاون مع “غارديان” البريطانية عن وجود تعاون مكثف بين شركة مايكروسوفت ووزارة الدفاع الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر (2023) يشمل تزويد آلة الحرب الإسرائيلية بإمكانات تخزين معلومات عبر تطبيق “كلاود” ( (cloud)، فضلاً عن صفقة بقيمة عشرة ملايين دولار لتقديم دعم تقني بحجم آلاف الساعات لوزارة الدفاع. وتشير الوثائق المسربة، التي تشمل سجلات تجارية من وزارة الدفاع الإسرائيلية وملفات من فرع مايكروسوفت الإسرائيلي، إلى استخدام منتجات مايكروسوفت وأبزها كلاود أزور (Azur) من القوات الجوية والبرية والبحرية الإسرائيلية في ما يتجاوز مجرّد تخزين المعلومات وخدمات البريد الإلكتروني إلى دعم الأنشطة القتالية والاستخبارية، بما في ذلك تكليف الشركة التي أقامت علاقات تعاون وثيقة مع إسرائيل بالعمل في مشاريع حساسة وسرية للغاية في مديرية المخابرات للجيش الإسرائيلي وتحديدا فرقة النخبة. يعتمد التحقيق على وثائق حصل عليها الموقع الاستقصائي “دروب سايت” (Drop Site) الذي نشر تحقيقا موسّعا شرح عمق التعاون بين شركات التكنولوجيا المعلوماتية والجيش الإسرائيلي بما حوّل الحرب على غزّة إلى “منجم ذهب” للعقود المربحة تنافست عليها شركتا “غوغل” و”أمازون” لتقديم الخدمات لوزارة الدفاع الإسرائيلية، بما في ذلك تقديم تخفيضات على العروض.

مع تماهي المسافة الفاصلة بين حرية التعبير والتضليل، بين الناقدين وقامعي النقد، باتت حالة التشويش الناجمة عن انفلات شركات تكنولوجيا المعلومات ووسائط التواصل تحت عنوان حريّة التعبير أزمة معرفية، وليس أزمة أخلاقية فحسب. ما الحقيقة؟ ما الخيال؟ يقول المدير العام لوكالة الصحافة الفرنسية في المقالة إن خدمات التحقق من المعلومات التي قدّمتها وسائط التواصل تعرّضت للانتقاد لمحدودية إمكاناتها، إلا أنها رغماً عن هشاشة دورها شجّعت ثقافة جديدة في غرف التحرير قادت إلى تحقيقاتٍ ساهمت في تفسير الوجه المعقد للحقيقة. مع تبسيط الحقائق وتوليفها لخدمة أجندات السياسة الشعبوية، وصولا إلى حد الكذب الصريح، قد تكون مرحلة “الحقائق البديلة” التي شكلت عنوان ولاية ترامب الأولى، مجرّد بداية فوضى من نوع آخر.

 

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى