غزّة الآن… البوصلة والمرآة

سعدية مفرح

لا هي خرافة ولا أسطورة، لكنها حقيقة تتجلّى كل يوم.

غزّة، تلك البقعة الضيقة التي تكاد تضيق بما وبمن تحمل، لكنها تسع ما لا يسعُه الخيال. اليوم، وبعد طوفان الأقصى، تبدو كما كانت دوماً: حاضرة كخنجر في خاصرة الاحتلال، وغائبة عن ترف الزمن العربي، لا تعرف التراخي، ولا تملك رفاهية الانتظار.

غزّة، التي لا تهدأ، تنبض بالحياة وسط ركام الموت، فتكتب بدمائها تاريخاً لا يجرؤ أحد على نسيانه. هي مرآة للكرامة، وشاهد على أن الشعوب حين تقرر الحياة، تنتزعها من بين أنياب المستحيل. وغزّة التي خرجت من تحت الحصار لا تكتفي بالنجاة، بل تبعث رسائل إلى العالم أجمع، تقول فيها إن الحرية تُنتزع ولا تُمنح، وإن الكبرياء ليس شعاراً يُرفع، بل قصة تُروى بأرواح الشهداء، وصبر الثكالى، وصلابة المقاومين.

بعد “طوفان الأقصى”، وقبله، ودائماً، تبقى غزّة غارسة جذورها في الأرض، تواجه الزلازل بأطفالها الذين يحملون الحجارة كأنها رايات، وبنسائها اللواتي يعلّمن العالم أن البطولة ليست حكراً على الرجال، فهي المدينة التي لا تُقاس بمساحتها، بل باتّساع قلبها وقدرتها على حمل جرحها الكبير من دون أن تنحني.

في كل عدوان، تُثبت غزّة أنها ليست مجرّد رقم في نشرات الأخبار، ولا هامشاً في خطب السياسيين. بل قلب القضية، وروحها التي تنبض، رغم كل محاولات الخنق، وحكاية المقاومة، تلك التي لا تموت لأن الأمل يسكنها، ولأن الإيمان بعدالة الحق يُضيء طريقها حتى في أشد اللحظات عتمة.

غزّة، إذن، ليست مدينة على الهامش، إنها المركز الذي يدور حوله العالم، فمن أزقّتها التي ضاقت بالوجع، ومن شوارعها التي امتزجت بدماء الشهداء، تولد الحكايات التي تنقل للآخرين خارجها أن القوة ليست في السلاح وحسب، بل في الإرادة التي لا تعرف الانكسار. ولذلك ستبقى كما كانت دوماً، خارجة من بين الأنقاض كالعنقاء، شاهدة على أن الحرية تُستحق بقدر ما تُقاوم من أجلها.

وربما لهذا كله، بقيت غزّة وحدها في وجه العاصفة، لا تكترث بما يُحاك ضدها من الأعداء، ولا تلتفت إلى خناجر الأعدقاء التي تُغرس في ظهرها. هي تعرف جيداً أن الصمود ليس سلعة تُباع أو تُشترى، بل هو إرث الكرامة الذي لا يفرّط فيه الشرفاء. لا تُزعزعها أصوات التشكيك التي تتحدّث عن الخراب والدمار، ولا تُضعفها المقارنات الظالمة التي تختزل نصرها الأسطوري بعدد الشهداء وآثار الدمار. ذلك أنها تدرك أن الطريق إلى الحرية مليء بالأشواك، وأن من يقيس النصر بمقدار الألم، لم يفهم أبداً معنى التضحية.

وهكذا تصيغ معادلتها كبوصلة؛ حين ينفض العالم يديه، وحين يحاول بعضهم تقزيم صمودها إلى مجرّد مأساة، تقف لتقول: “أنا لست مأساة، أنا ملحمة”.

هي تعرف أن الحصار ليس فقط على الأرض، بل هو حصار فكري وروحي، تُفرض عليها أسواره من القريب والبعيد. ومع ذلك، تأبى أن تكون جزءاً من معادلات الاستسلام، أو أن تتخلى عن مبادئها في مقابل القليل من الراحة. تُحاصَر، لكنها تحاصِر بدورها كل محاولات النسيان، وكل رغبة في قتل الحلم الفلسطيني الذي يسكن قلوب الأحرار.

غزّة ليست معنية بإرضاء العالم الذي ينظر إليها بعين الشفقة أو الغضب. هي لا تنتظر الإنصاف ممن لا يفهمون أن حرّيتها أغلى من حسابات الخسائر والأرباح. في وجه الحصار، تبني قوتها. وفي وجه التجاهل، تصرخ بأفعالها قبل كلماتها، أن النصر الحقيقي لا يُقاس بموازين الأرض، بل بقدرة الروح على البقاء حرة، رغم كل محاولات الانكسار.

وغزّة، التي لا تتراجع، أصبحت مرآة تكشف الوجوه الحقيقية. في صمودها العنيد، فضحت كل من تخلّى، ومن أدمن الشعارات الفارغة من دون أن يخطو خطوة واحدة نحو الفعل. في وقتٍ اجتمع فيه العالم ليطوّقها بالمؤامرات والحصار، كشفت عن معدنها الأصيل، وعن هشاشة من يدّعون الصداقة وهم يلتفون عليها كالأفاعي، يثرثرون عن الحلول بينما يتجاهلون دماء أبنائها التي تُسطر الحرية حرفاً حرفاً.

غزّة بوصلة لكل من ضلّ الطريق، تخبر المقاومين أن النصر ليس لحظة عابرة ولا صورة تُلتقط. النصر هو القدرة على الصمود رغم كل الخذلان، أن تبقى واقفاً حين يظنّ الجميع أنك ستنهار. في وقت سقط فيه أصحاب النفس القصير، الذين تاجروا بالمقاومة وجعلوها ورقة في جيوبهم، تواصل غزّة معركتها بروحٍ طويلة، لا تساوم ولا تتنازل، مؤكدة أن الحرية لا تُجزّأ، وأن الكرامة لا تُباع على موائد المفاوضات.

أما الذين ظنّوا أن صمود غزّة سيجعلها تهرع لطلب الرضا، فقد خابت حساباتهم. غزّة لا تنتظر وساماً من أحد، ولا اعترافاً من الذين باعوا قضيتهم على أبواب العواصم الباردة. هي تعرف جيداً أن معركتها ليست فقط مع الاحتلال، بل مع النيات الخبيثة التي تحاول تسريب اليأس إلى قلبها. ومع كل عدوان، ومع كل مؤامرة، تظل غزّة تصرخ في وجه العالم: “أنا الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن إنكارها، وأنا الطريق الذي لن يضلّه إلا من اختار الخيانة”.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى