بدأت تتّضح ملامح السياسة السورية الخارجية بعد الخلاص من نظام بشّار الأسد، قوامها رغبة الإدارة الجديدة في تأسيس علاقات إقليمية ودولية جديدة، تنهض على الاحترام المتبادل والمصالح المتقاطعة، وتأمل في أن يسهم المجتمع الدولي بمساعدتها في إعادة الأمن والاستقرار إلى سورية المدمّرة، التي يعاني غالبية سكّانها وطأة الفقر والتهميش وتبعات النزوح واللجوء. وعبّرت الإدارة الجديدة في أكثر من مناسبة عن أنها ستتّبع سياسةً متوازنةً في علاقاتها مع مختلف القوى الإقليمية والدولية، بما يضمن استقلالية القرار الوطني السوري، إضافة إلى إدراكها أهمّية تطبيع علاقات سورية مع دول الجوار والإقليم والعالم، فأرسلت رسائلَ طمأنةٍ عديدة إلى دول الجوار والعالم، تفيد بأن سورية لن تكون عامل عدم استقرار، بل ستسعى إلى تصفير المشكلات معها، وأنها لن تتّبع نهج تصدير الثورة، بل اعتبرت أن الثورة انتهت بسقوط النظام، وبدأت مرحلة الانتقال إلى بناء الدولة، التي تسعى إلى العيش في سلام ووفاق مع جوارها والعالم، لذلك من الأهمّية ألا تفوّت الدول العربية الفرصةَ في مساعدة الإدارة الجديدة على مختلف المستويات، السياسية والاقتصادية، وبما يساعد سورية لكي تتحوّل عاملَ استقرار في المنطقة ولا تنتج نظاماً يتعايش على الابتزاز وصنع الأزمات مع جواره، مثلما كان يفعل نظام الأسد.
سارعت الإدارة الجديدة إلى تأكيد توجّهها العربي بوصفه أولوية في سياستها الخارجية
المحدّد الأول للسياسة الخارجية للإدارة الجديدة هو تركيزها في السعي إلى عودة سورية إلى النظام العربي، لذلك أرسلت وفداً رفيع المستوى إلى كلّ من السعودية وقطر والإمارات والأردن، وفنّدت بذلك ما يشاع عن أنها واقعة في الحضن التركي، وأن ما جرى في سورية هو وراثة تركيا نفوذ النظام الإيراني فيها، بينما أثبتت توجهات الإدارة أنها تتمتّع باستقلالية ملحوظة عن الجار التركي، بالرغم من أن العلاقات مع تركيا تحظى بأهمّية كبيرة لديها، بالنظر إلى المواقف التركية المساندة لثورة الشعب السوري في ثورته، ودعمها لفصائل سورية مسلّحة خلال الحرب التي كان يشنّها نظام الأسد، وحليفيه الروسي والإيراني ضدّ الشعب السوري، خلال أكثر من 13 سنة، إضافة إلى إيوائها أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري في أراضيها. ومع ذلك، سارعت الإدارة الجديدة إلى تأكيد توجّهها العربي، بوصفه أولوية في سياستها الخارجية، الأمر الذي يُفسّر أن أوّل زيارة خارجية لوزير الخارجية أسعد الشيباني، والوفد المرافق له، كانت إلى الرياض، تلتها زياراته إلى الدوحة وأبوظبي وعمّان، ثمّ زار وفد برئاسة الشيباني تركيا التي كانت أوّل دولة أرسلت وزير خارجيتها هاكان فيدان إلى دمشق، وسبقتها زيارة رئيس استخباراتها إبراهيم كالن، إضافة إلى أنها كانت تهدّد بقيامها بعملية عسكرية ضدّ قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تسيطر على مناطق في شمالي الجزيرة السورية، فيما سلكت الإدارة الجديدة طريق الحوار معها، بغية إدماجها في الجسد السوري، وفق مبدأ وحدة سورية أرضاً وشعباً، وسيادتها في كامل أراضيها. ويبدو أن المسؤولين الأتراك منحوا الإدارة الجديدة فرصةً كي تتولّى أمر “قسد”، وكلّ مخرجات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية، كما أن الإدارة الجديدة لم تمنح الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، الذي يتّخذ اسطنبول مقرّاً له، أيَّ خصوصية في التعامل معه، بل طالبته بحلّ نفسه. وكذلك الأمر في ما يخص حكومة الائتلاف المؤقّتة، التي اضطرّت إلى تسليم المعابر الحدودية مع تركيا إلى الإدارة الجديدة.
المحدد الثاني للسياسة الخارجية الجديدة هو القطع مع سياسة المحاور التي كان يتّبعها نظام الأسد، وأفضت إلى تغلغل النظام الإيراني في مختلف تفاصيل الدولة السورية، وإلى سعي روسيا إلى تحويل سورية قاعدةً متقدّمة لها في الشرق الأوسط، وإطلالة هامّة على البحر الأبيض المتوسّط، فيما اختلفت الأمور جذرياً بعد إسقاط نظام الأسد. ولعلّ من أولى نتائج إسقاط نظام الأسد الاحتضان العربي والدولي للتحوّل الذي حدث، وعبّر عن بروز تدفّق دولي وعربي كبير إلى دمشق، التي باتت قبلة لوفود عربية وأجنبية، حيث اختلفت حساباتها ما بين دعم الشعب السوري وإدارته الجديدة من دون اشتراطات وإملاءات، وبين دول طرحت شروطها العلنية التي تصل حدّ التدخّل في الشأن الداخلي والمساس بالسيادة السورية، ولا يغيب عن ذلك مطامح النفوذ وتثبيته والحفاظ عليه، كما لا تغيب عن هذه الوفود حسابات دولها المرتبطة بالتنافس وتثبيت الحضور. والملاحظ أن الحراك السياسي لمعظم دول الخليج العربي نحو دمشق يستدعي إلى الذاكرة إمكانية إعادة إنتاج منظومة جديدة للتعاون والتكامل الإقليمي ما بين دول المنطقة، بما يشمل دول الخليج وتركيا وسورية الجديدة. ويُبنى الحديث عن منظومة تعاون جديدة على إدراك معظم الدول العربية أهمّية سورية، وضرورة دعمها للتعافي وإعادة إعمار ما دمّره نظام الأسد، وعدم تركها وحدها مثلما فعلت مع العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003. ومع ذلك، ما تزال بعض الدول العربية تبدي توجسها من الإدارة الجديدة، فلم تبادر إلى دعمها، لأن هاجس الخوف يسكنها، وتتخوّف من أن تستلهم شعوبها النموذج السوري في التغيير.
تكمن حيثيات السياسة الخارجية للإدارة الجديدة في حاجتها إلى اعتراف دولي، نظراً إلى أهمية ذلك في اكتساب شرعية خارجية، في ظلّ مشهد دولي وإقليمي معقّد حول سورية، ولم تتفكّك عُقدُه برحيل النظام، إضافة إلى أنها تولي أهميةً لانخراط سورية في محيطها العربي، وللحاجة الملحّة إلى دور الدول العربية من أجل تذليل التحدّيات والعقبات الكثيرة التي تواجهها في المرحلة الانتقالية، ويسكنها الدافع بألا يُختصر دورها في الدعم الإنساني والاقتصادي، بل أن يتجاوزه إلى الدعم السياسي، خاصّة العمل من أجل رفع العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على سورية.
تكمن حيثيات السياسة الخارجية للإدارة الجديدة في حاجتها إلى اعتراف دولي، نظراً إلى أهمية ذلك في اكتساب شرعية خارجية
وعلى المستوى الدولي، سارعت الولايات المتحدة إلى التعامل بإيجابية مع التغيير الحاصل في سورية، لأن السلطة الجديدة أسقطت نظام الأسد الذي حوّل سورية منطقةَ نفوذ للنظامين الإيراني والروسي، ومن ثم تخلّصت الولايات المتحدة من هذين المنافسين لها من دون أن تقوم بأيّ فعل عسكري. وقد تجاوزت الولايات المتحدة التصنيفات التي وضعتها للفصائل التي تقود الإدارة السورية الجديدة، فأرسلت وفودها الدبلوماسية إلى دمشق، وكذلك فعلت كلّ من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وأوكرانيا، وأبدت دول الغرب استعدادها للتعاون المشروط مع الإدارة الجديدة، فصرّح مسؤولون غربيون أنهم يراقبون الأفعال التي ستقوم بها، فيما لم تتأخّر الإدارة الأميركية في توجيه رسالة حسن نيّة إلى سورية الجديدة، تمثّلت برفع جزئي ومؤقّت للعقوبات الاقتصادية على سورية، في انتظار رفعها العقوبات على الدولة السورية وقطاعاتها الحيوية.
لن تكون السياسة الخارجية منفصلةً عن سياستها الداخلية التي تواجه تحدّيات كثيرة، وتتطلّب مؤسّسات تمثيلية جامعة، بما يسهم في تشكيل هُويَّة سياسية جامعة، ويجعل نموذج التغيير في سورية ينهض نحو تأسيس دولة تعاقدية مدنية ذات طابع إسلامي منفتح. وليس الطريق للوصول إلى ذلك كلّه مفروشاً بالورود أمام الإدارة الجديدة.
المصدر: العربي الجديد