يُقال إن رجلاً من أهل مرو (كما ورد في كتاب “البخلاء” للجاحظ) كان ولا يزال يحجّ ويتَّجر، وينزل على رجلٍ من أهل العراق، فيُكرمه ويكفيه مؤونته. ثمّ كان كثيراً ما يقول لذلك العراقي: “ليت إني قد رأيتك بمرو، حتى أكافئك، لقديم إحسانك، وما تجدّد لي من البرّ في كلّ مرّة. فأمّا ههنا فقد أغناك الله عني”. وقد عرَضتْ لذلك العراقي، بعد دهر طويل، حاجةٌ في تلك الناحية؛ فكان ممّا هوّن عليه مكابدةَ السفر، ووحشة الاغتراب، مكان المروزيّ هناك. فلما قدم مضى نحوه في ثياب سفره، وفي عمامته وقلنسوته وكسائه، ليحطّ رحله عنده، كما يصنع الرجل بثقته، وموضع أنسه، فلما وجده قاعداً في أصحابه، أكبّ عليه وعانقه، فلم يره أثبته، ولا سأل عنه سؤال من رآه قط. قال العراقي في نفسه: “لعلّ إنكاره إيّاي لمكان القناع”، فرمى بقناعه، وابتدأ مساءلته، فكان له أن أنكر، فقال: “لعلّه أن يكون إنما أتي من قبل العمامة”، فنزعها ثمّ انتسب، وجدّد مساءلته، فوجده أشدّ ما كان له إنكاراً. قال: “فلعلّه إنما أتي من قبل القلنسوة”، وعلم المروزي أنه لم يبقَ شيء يتعلّق به المتغافل والمتجاهل، فقال: “لو خرجت من جلدك لم أعرفك”. والحقيقة هذا شأن ثوّار سورية مع الغرب وأعوانه، على نحوٍ من الأنحاء، فحكّام سورية الجُدد يجتهدون في إعادة إنتاج أنفسهم، ويرتدون من الهيئات والملابس واللغة ما يحاولون إقناع المتربّصين بهم أنهم تحوّلوا أناساً جُدداً، لعلّهم يصبحون أهلاً للاعتراف بهم. ومع كلّ ما يفعله الثوار، تجد جزءاً غير يسير من الغرباء (عرباً وعجماً) يصرّون على أن أحمد الشرع هو أبو محمّد الجولاني، وإن استبدل عمامته وبزّته الكاكي بالبزّة السموكن العصرية، كما يصرّون على أن حكومة تسيير الأعمال هي نفسها جبهة النصرة، إن لم يكن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
إنكار الغرب وأعوانه صورة ثوّار الشام الجديدة هو الوجه المعاكس لإنكار المروزي صاحبنا العراقي، فمهما اجتهدوا في تغيير صورتهم سيبقون في نظر الآخر الثوّار المجاهدين، الذين دخلوا دمشق “فاتحين”. وكلا الاصطلاحين، الفتح والجهاد، يدمغ صاحبهما بعلامة مسجّلة، لا يمكن أن يتعايش معهما غربنا مع شرقنا، فهما يوقظان في المخيال الغربي طيفاً واسعاً من المفاهيم التي اجتهد الغرب على مدار قرن أو يزيد في دفنها أو تشويهها أو حتى محوها من الوجود، ليأتي ثوّار الشام لإزالة كلّ ما علق بها من دَنس، ويقدّمانها تثير من المخاوف أكثر بملايين المرّات ممّا تثير من التطمينات، وصاحب هذا (وقبله وبعده) وضعُ الثوّار تحت مجهر حسّاس مكوّن من جملة من المفاهيم والقوانين والتشريعات، التي تندرج تحت بند “محاربة الإرهاب”، وهذا تحديداً ربّما يكون أكثر الاصطلاحات تدليساً وتضليلاً في العصر الحديث، فمن السهل مثلاً أن تستبدل كلمة “الإرهاب” بكلمة “المقاومة” أو “الإسلام” مثلاً، من دون أن يغيّر هذا الاستبدال شراسة تطبيقه على كلّ ما تقترفه شعوب الشرق أفراداً وجماعاتٍ، فكلّ ما لا يروق للنظام الغربي ومن يدور في فلكه من نشاط تحرّري هو “إرهاب”، وكلّ محاولة لإعادة الألق للإسلام وإحياء مفاهيمه وقيمه وأركانه، وخاصّة الجهاد، فهو “إرهاب”، حتى غدا مصطلح “الجهاديين” مرادفاً لـ”الإرهابيين”، كما أصبح مصطلح “الجهادست” الوجه الآخر لـ”الإرهاب”. وبالجملة ارتكب ثوّار الشام “خطيئتَي” الجهاد والفتح، فأيّ غفران يرتجونه من الغرب وأعوانه؟
ثوّار الشام إن أبدوا بعض مرونة إلا أنهم ممانعون بشراسة لأيّ محاولة لتغيير جلدهم
طبعاً، تبدو محاولات قبول الغربِ نظامَ دمشق الجديد محاولاتٍ جادّةً، مع وضع قائمة طويلة من الاشتراطات، والمفارقة الصارخة هنا أن هذه الاشتراطات في كنهها تُخرِج هذا النظام من جلده، وتحيل صورته مسخاً من أيّ نظام عربي أو “عالمثالثي” تابع للغرب، بفساده وديكتاتوريته واستبداده. ودعك هنا من دعوات الدمقرطة والعلمنة والدسترة ومراعاة حقوق الأقليات، فهي ذرائع فارغة تحمل في ثناياها تلك الوصفة الخبيثة التي ركلها ثوّار أفغانستان، فوضعوا بلادهم في أول طريق النجاة من منظومة التبعية للغرب، وهندسته اللعينة لدول العالم الثالث عموماً، وبلاد العرب تخصيصاً.
ثوّار الشام صامدون، وهم وإن أبدوا بعض المرونة في الاستجابة النسبية لاشتراطات النظام الغربي لمنحهم شرف “بطاقة العضوية” في نادي القطيع، إلا أنهم ممانعون بشراسة أيّ محاولة لتغيير جلدهم أو التنكّر لهويتهم الإسلامية، لأنّهم مؤمنون بأن هذه الهُويَّة تحديداً هي سرّ قوتهم ونسغ حياتهم، وفي اللحظة التي يخلعونها فعلاً، سينضمّون إلى صفّ طويل من الأنظمة الباهتة، الأعضاء في نادي الدول المدينة المتخلّفة القامعة لشعبها، الدائرة في فلك اللهاث نحو الاستقلال والحرّية والمنعة والتحرّر. باختصار، يريد الغرب أن يحوّل ثوّار الشام نسخةً ربّما تكون مزيدة ومنقّحة من أنظمة “الاستعمار الوطني”، التي تدير بلادها نيابةً عن الاستعمار الأجنبي، باشتراطاته وقوانينه كلّها.
ثوّار الشام إن وقعوا في شرك اشتراطات الغرب، والسعي نحو حصولهم على شهادة “حسن السلوك”، وفق شروط العضوية في نادي الدول الهوامش، فسيكونون كالمنبت الذي لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، والطريق الوحيد المتاح أمامهم هو أن يكونوا هم، بكلّ قيمهم التي حرّكتهم وشكّلت هُويَّتهم، وزوَّدتهم بتلك القوة التي حملهم فيها الجهاد إلى مرحلة فتح الشام، وعلى من يريد أن يتعامل معهم أن يرضخ لقبولهم كما هم، قهراً وجبراً، ولن يحمي هذا الخيار غير قوة السلاح التي مكّنتهم من الفتح، وبغير هذا فلن يقبلهم المجتمع الدولي حتى ولو خرجوا من جلودهم، وهو الخيار الذي لم ينفع مع محاولات العراقي كي يعرفه المروزي.
المصدر: العربي الجديد