بين الشغف وخيبة الأمل

بسمة النسور

أصبحت عبارة “فقدت الشغف” رائجةً ومتداولةً على نطاق واسع، يردّدها ناسٌ كثيرون في حياتنا اليومية للتعبير عن الشعور بالتعب والملل وانعدام الحماسة، والانكفاء والتراجع البدني والنفسي، وفقدان الدافع إلى المبادرة وتحقيق المُنجَزات، وقد يستخدمها بعضهم شمّاعةً ومبرّراً غير مقنع لصفات الخمول والكسل والبلادة التي تميّز إيقاعهم في الحياة.
والشغف في اللغة شعور بالحماسة الشديدة، ورغبةً لا تقاوم تجاه شخص أو شيء ما، وغالباً ينطوي الشغف على اهتمام ولهفة أو اندفاع ورغبة في الإنجاز وتحقيق النجاح، وإذا ما شئنا أن نجد صفةً يشترك فيها المتميّزون في أعمالهم، فهي قطعاً الشغف. هؤلاء يتجاوزون مرحلة حُبّ عملهم إلى عشقه، ما يؤدّي بهم إلى الإبداع والابتكار في مجالهم، لأنهم لا يؤدّون مهامهم بآلية وظيفية رتيبة، بل تحرّكهم حالةً عاطفيةً عالية التأثير.
وللشغف إذا ما تحقّق مزايا عديدة، من شأنها أن تقوّي مناعتنا النفسية، وتعزّز ثقتنا بذواتنا، وتضيف لحياتنا المعنى والألق والسعادة، لعلّ أكثرها أهميةً الحماسة، حين يتدفّق الأدرينالين والدوبامين في أجسادنا، ويحيلنا كتلةً متّقدة من السعادة والرضا عن الذات، فنُقبل على عملنا، ليس من باب الواجب فحسب، بل انطلاقاً من إيمان شخصي بجدوى وأهمية ما نقوم به. إذ يضاعف الشغف من نشاطنا وحيويتنا وهمتنا، فنقوم بعملنا على أكمل وجه، وننسى التعب والإرهاق، ونركّز جلّ طاقتنا في تحقيق أفضل النتائج، ويحقّق لنا الشغف القدرة على الثبات، لأنه يحمل لمحةً عاطفيةً تجعلنا نتشبّث بما نحبّه، كما يدفعنا نحو الإنجاز، فحين نكون شغوفين بأمر ما سوف يزيد ذلك من تركيزنا في تطوير خبراتنا.
كذلك، يجعلنا الشغف نستغرق كلّياً حين نمارس عملاً نحبّه ولا نشعر بمضي الوقت، ولا تشغل بالنا الهموم والمتاعب، لأن السعادة الحقيقة تكمن في الاستغراق وصرف الذهن من خلال تغذية عاطفة الشغف في نفوسنا ناراً تشتعل في دواخلنا، ووقوداً يغذّي أحلامنا وأهدافنا. غير أن علينا الانتباه إلى الخطّ الرفيع الذي يفصل ما بين الشغف والهوس، فالشغف مُلهِم ومُحفّز وهو يجعل الفرد متفرّداً، والهوس مدمّر، يجعل المصاب به مريضاً، وهو نقيض الشغف، لأنه بحسب علم النفس تركيز غير صحّي مبالغ به على شخص أو شي ما يستحوذ على الأفكار والمشاعر بشكل مَرضي، ويؤدّي إلى سلوكات مؤذية مثل المطاردة والاكتناز والسيطرة المفرطة. غير أن الشغف قابلٌ للزوال في أحوال كثيرة، مثل خيبة الأمل والإرهاق والإحساس بعدم التقدير.
المفزع أنّنا بتنا نسمع شكوى فقدان الشغف من شبّان وشابّات في ميعة الصبا، إذ ينبغي أن تكون شهوة الحياة لديهم في أوجها، ويُفترَض بهم الفضول والطموح والاندفاع والانطلاق والمغامرة، مهنياً واجتماعياً وعاطفياً، غير أنك تجد فيهم مظاهر اليأس والكآبة والقنوط والتراجع. وحين تحاور أحدهم في أسباب هذا التردّي النفسي، تجد بعض أسبابهم لا يخلو من وجاهة، مثل الواقع السياسي غير المشرق، والأوضاع الاقتصادية الضاغطة وارتفاع نسبة البطالة وتدنّي مستوى الرواتب، وقلّة فرص العمل، واضطرار كثير منهم للعمل في غير مجال تخصّصه من أجل تأمين لقمة العيش.
ما سبق كلّه من عوامل كفيل باقتلاع الشغف من جذوره إذا لم تؤدّ الدول واجبها في تأمين فرص عمل مناسبة لجيل منحوس ضائع، فقد الإيمان ببلاده القاحلة من الأمل، وبات حلمه الوحيد الهجرة بعيداً إلى بلاد تقدّر قيمة الفرد المتميّز وتفجّر طاقاته، وتستثمر شغفه، وتهيئ له الظروف المناسبة كي يبدع، ويحقّق ذاته، ويعود عليها بالتالي بمزيد من الرفاه والرخاء.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى