لعبت الدولة دورًا محوريًا فى التوسع الرأسمالي في فرنسا، وبريطانيا ، ومعها وعبرها توحدت ، المقاطعات، ووحدة السوق الرأسمالي وتشكلت الأمة ، وفق المفهوم السياسي، والاجتماعي والاقتصادي، والثقافي، ومع الحداثة السياسية، ودولة القانون والحق، كانت الصراعات الاجتماعية حول المصالح، تدور داخل الدولة وأجهزتها، بل وفي النظام السياسي الديمقراطي التمثيلي.
التحول إلى دولة الحريات الفردية والعامة، كانت جزءاً لا يتجزأ من الثورات الأوروبية – كرومويل، والفرنسية-، ومن ثم تم تأسيس الدولة البورجوازية، والصراعات عليها وبها ، على نحو أدى إلى تطورات مع الرأسمالية التى حفزت مع ميلاد الفرد، والمذهب الفردي، ومن ثم إلى إقرار حرياته الفردية والعامة. هذه التحولات التى أدت إلى تأسيس دولة القانون والحريات، التي كانت تعبيراً عن أثر التطورات التكنولوجية، والعلمية، وفوائض القيمة من العمل الاستغلالي ، وفي إطار العلاقات الاجتماعية. لم يكن القانون الوضعي الحديث، منعزلاً عن تأثيرات التطورات الحداثية ومراحلها التاريخية المعرفية، والفلسفية، وفي العلوم الاجتماعية، والأدبية، والأسلوبية، وإنما حدثت بعض التأثيرات المهمة، لأن المراحل الأولى، والثانية، والثالثة من الحداثة الغربية، كانت تموج بالجدل الفلسفي والسوسيولوجي والأدبي، والفني المؤثرة، إلا أن بعض هذه التأثيرات كان يتسم بالمحافظة النسبية ، والتعديلات الجزئية على الدساتير، وفلسفة القانون، وسياساته التشريعية، لأن النزعة الوضعية القانونية ، والطابع الشكلاني في إنتاج النصوص القانونية، وطابعها التجريدي، وتطبيقهاتها في ضبط السلوك الاجتماعي، والإداري لأجهزة الدولة، ظل مسيطراً على دراسة وتفسير القوانين واللوائح الإدارية وتأويلاتها، وايضاً علي العمل النظري والتفسيري لعلماء القانون، والسلطة والمؤسسات القضائية وأجهزة الدولة المختلفة.
النزعة الوضعية القانونية فى إنتاج القوانين، وتفسيرها وتأويلها كانت تخضع للمصالح الاجتماعية المسيطرة داخل الدولة ذاتها والنظام ، حتى في ظل مراعاة بعض الانحيازات النسبية لمصالح القوي الاجتماعية العريضة للعمال والفلاحين والبورجوازية الصغيرة ، وذلك حفاظا على استقرار الدولة وسلطاتها وأجهزتها المختلفة ومصالح القوي المسيطرة ، ومعها المجتمع. ثمة أيضا الأدوار المتنامية التى لعبتها الأحزاب السياسية، والنقابات العمالية والمهنية، في ممارسة الضغوط أثناء عمليات أعداد القوانين، ومناقشاتها داخل المجالس النيابية، وإقرارها وإصدارها ونشرها رسميا.
مع الثورات التكنولوجية، والتطورات الرأسمالية ، ومعها علاقات الإنتاج، ظلت النزعات المحافظة مسيطرة، وتمددت الدولة وأجهزتها، في تفاصيل الحياة، والعلاقات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، ومن ثم علي إنتاج القوانين المنظمة لها، وفي ذات الوقت حدثت قفزات هامة مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وحركاتها التي أدت إلى تطور وتنوع الحقوق والحريات العامة والفردية وخاصة في مجال حقوق المرأة والمثليين ..الخ!، اعتمادا علي ركائز هذه المنظومات في المجتمعات الأوروبية، وأمريكا الشمالية.
ثمة اختلالات وفجوات لا تزال قائمة في قوانين الدولة الرأسمالية فائقة التطور من زاوية المصالح التى ينتصر لها المشرع، ومعه توجهات بعض المؤسسات القضائية في تطبيقها للقوانين على المنازعات المرفوعة إليها. الأهم أن مبادرات، ومشروعات غالب القوانين باتت تقدمها السلطة التنفيذية، والحكومات المنتخبة -ومعها بعض رؤساء الدول في الانتخابات العامة التشريعية كما في النظام شبه الرئاسي الفرنسي وتعديلاته في الجمهورية الخامسة -، وتراجع بعض أدوار الأحزاب السياسية الممثلة في المجالس النيابية في تقديم مشروعات القوانين المعبرة عن المصالح الاجتماعية التى يمثلونها، وأحزابهم السياسية وايضاً اثر ثورة وسائل التواصل الاجتماعي والرقمنة علي ضعف بعض الأحزاب السياسية في تمثيل المصالح ، والتعبير عنها.
في الدول العربية ما بعد الاستقلال عن الكولونياليات الأوروبية ، كانت القوانين، لا تعبر عن التوسع الرأسمالي، ولا التغييرات التكنولوجية ، ولا مفاهيم الحداثة فى تحولاتها التاريخية، وإنما كانت تعبيرا عن هيمنة الاستبداد السياسي، ودولته، ونظامه، والتسلطية السياسية، وظل القانون، ولا يزال حاملاً لمصالح الدولة/ النظام/ الحاكم، وقواعده الاجتماعية، وبنياته التقليدية وجماعات المصالح مع الرأسمالية فيما بعد . في بعض الدول مابعد الاستقلال التي اتخذت من رأسمالية الدولة نموذجاً، أو تحولت إلى نظم ريعية -في ظل الثروة النفطية وعوائدها- أو إلى النيوليبرالية بعد ذلك ، كان القانون معبرا عن مصالح السلطان المتغلب ، ومعها قيود وضوابط الصناديق الدولية- صندوق النقد الدولي، والبند الدولي- في دول العسر، وأيضا بعض من السياسات المالية لدول اليسر الريعية ، في اطار علاقات التبعية مع المركز الإمبريالي المعولم .
القانون الغربي الوضعي الحديث والمعاصر كان جزءاً من الحداثة السياسية، ومن ثم الحداثة في كافة مصادرها المعرفية والفلسفية والفنية والأدبية ، وتجلياتها، وساهمت الحداثة القانونية ايضا في تطور المجتمعات والفكر الحداثى، على الرغم من طابعها شبه المحافظ.
الحداثة القانونية الوضعية في مصر، ساهمت في التحول إلى الدولة الأمة الحديثة -الاستثنائية عربيا- من خلال استعارات الهندسة القانونية الأوروبية الفرانكفونية ، في التحديث السلطوي للقيم، وبناء أجهزة الدولة البيروقراطية، والجيش الوطني -إبراهيم باشا-، وفي دمج الاقتصاد المصري، وتجارة القطن، بالنظام الرأسمالي الدولي آنذاك . ارتبط القانون المصري الوضعي الحديث بالتحديث المادي والمؤسسي، وأثر جزئيا على العلاقات الاجتماعية، وكان منحازاً للمصالح الاقتصادية والاجتماعية المسيطرة على تركيبة الدولة وتطوراتها حتي مرحلة النظام شبه الليبرالي.
إلا أن النزعة المحافظة للوضعية القانونية، أثرت سلبا على وضع القوانين، وتطبيقها، على الرغم من الدور المتميز للقضاء المصري في دعم الحقوق والحريات العامة. في ذات الوقت كان تطبيع، وتطويع القانون الغربي- في الأنظمة القانونية الفرعية- تم من خلال ترجمة المصطلحات القانونية، الحديثة الغربية المصادر التاريخية- البلجيكية والإيطالية والفرنسية- من خلال استمداد بعض من أشباهها من الموروث اللغوي الديني والفقهي الإسلامي، في محاولة للتوفيق بين اللغة القانونية الغربية، وبين اللغة الفقهية الإسلامية الوضعية، وهو نتاج لمحاولات الدولة في السيطرة على الدين في العمليات التشريعية، ونتاج للصراعات على الدين، وبه في حياة الدولة والنظام والمجتمع تاريخيا منذ إدخال بعض التعديلات على نظام الشريعة، جزئيا في عهد دولة محمد على والتغيرات الكبرى في عهد إسماعيل باشا ومابعد، وترك نظم الأحوال الشخصية للقانون الديني الوضعي للمسلمين، والمسيحيين، واليهود . في ظل النظام شبه الليبرالي، والتعدد الحزبي كانت مسألة الدستور وحمايته أحد أبرز مطالب الحركة القومية الدستورية المصرية، وخاصة في مجال الحريات، والفصل والتمايز بين السلطات.
في أعقاب نظام يوليو، ورأسمالية الدولة الوطنية -أو الطريق اللارأسمالي للتنمية- ازدادت هيمنة الدولة والسلطة على إنتاج التشريعات، وتوظيفها للقوانين في مصادرة الحريات العامة، والفردية، وفرض قيوداً باهظة عليها، وعلى المجال العام، وتحولت الدساتير -عربيا- إلى مجرد وثائق في البلاغة الدستورية الفارغة التى تتلاعب بها الأنظمة الاستبدادية والتسلطية كما شاءت لها مصالحها، في غالب الدول العربية.
مع التحول إلى الانفتاح الاقتصادي والرأسمالية، ثم النيوليبرالية باتت القوانين، هى تعبير عن مصالح الطبقة الحاكمة، ومعها الرأسماليون الجدد، ، ورجال الأعمال من المستوردين للسلع والخدمات، وتم تصفية قطاع الدولة في البلدان العربية، على الرغم من أن هذه السياسة أدت إلى تراجع حركة التصنيع في عديد البلدان، ومن ثم انعكس ذلك سلبا على القيم، والعلاقات الاجتماعية.
قام عديد من “رجال الأعمال”، باستخدام الفساد الإداري والسياسي في بعض الدول العربية، في تمرير مشروعاتهم الاستهلاكية، وذلك بطرق لا مشروعة ! الأهم أن بعضهم بات يستخدم وسائل الإعلام التقليدية والتلفازية كأداة ضغط سياسية، وأيضا في إنشاء بعض الأحزاب السياسية -الفاشلة-، وفي التأثير على وضع القوانين، لتغدو تعبيرا عن مصالحهم الاقتصادية، على الرغم من الطابع الطغياني للسلطة الحاكمة قبل الربيع العربي المجازي الذي لم يحقق أهدافه.
الأخطر أن القانون في العالم العربي، ومشاكل تطبيقه ، وعدم تحقيقه لوظيفة الفعالية في ضبط السلوك الاجتماعي، وحماية الحقوق والحريات العامة والشخصية، أدى إلى تمدد بعض من الفوضى في الحياة اليومية، والعلاقات الاجتماعية، على نحو ساهم في فرض قانون الواقع، أو قانون اللا نظام، ومن ثم فقد أدواره في التنظيم والضبط الاجتماعي، ولم يُعد مؤثرا في تطوير العلاقات الاجتماعية والقيم الحداثية، ومن ثم أثر ذلك على المسارات شبه الحداثية التى لعبها منذ استعارة انظمته الأساسية الأوروبية، ومن ثم إعاقة المجتمعات العربية من استكمال هذه المسارات شبه الحداثية ، وخاصة مع تشكيك الاتجاهات الأصولية الإسلامية السياسية والراديكالية في القانون الوضعي الحديث، من منظورات دينية سياسية وضعية في مواجهة دولة ما بعد الاستقلال الوطني، وكجزء من استراتيجيات جحد شرعية هذه الدول دينيًا، وتوسيع الفجوات بين الدولة والمجتمع، ومحاولات فرض هندسات دينية وضعية ونقلية على المجتمع، والأشخاص وحرياتهم ، دون مراعاة للتطورات والتحولات الكبرى في عالمنا المعاصر ، التكنولوجية والاقتصادية، والفكرية والقانونية، ولمفهوم الدولة ذاته، وهو تطرحه الجماعات الإسلامية السياسية في أدبياتها المختلفة، على نحو يعطي لقطاعات اجتماعية واسعة مبررات للخروج على قانون الدولة.
المصدر: الأهرام