ليل طهران الطويل

حازم كلاس

متحلّقين حول مائدة عامرة بكلّ ما هو أحمر اللون أو ما شابهه، من البطيخ إلى الرمّان مروراً بالبرتقال والخرما (درابزين خرمسي كما يسمّى في الشام)… هكذا قضى الإيرانيون أطول لياليهم هذا العام، يتسامرون بشأن القضايا الشخصية ويتناقشون في الأوضاع الاقتصادية لبلادهم التي لا تعجبهم منذ عقود، ويتبادلون الآراء في التطوّرات الإقليمية، خاصّة في سورية بعد لبنان وغزّة. يسمّونها ليلة “تشلّة” أي ليلة الأربعين، إذ يُعتقَد أن السنة كانت تسعة أشهر من 40 يوماً في إيران القديمة، وهي ليلة “يلدا” (بالسريانية). ليلة تصل فيها الشمس خلال الدوران السنوي للكرة الأرضية أسفل نقطة في الأفق الجنوبي الشرقي، والتي تُعرَف بنقطة “الحضيض”، ممّا يؤدّي إلى قِصَر النهار وزيادة مدّة ظلمة الليل.
ليلة تشلّة مختلفة هذا العام، تتزامن مع مرور 12 يوماً على سقوط نظام الأسد، يوم الجمعة الثاني الذي يتجمّع فيه السوريون في ساحة الأمويين رافعين علم استقلال سورية، وبعضهم يرفع شعارات مضادّة لإيران. في طهران، احتفالاً بليلة تشلّة، نشرت السلطات جداريات في أنحاء المدينة. صورة لعائلة إيرانية تقليدية متديّنة تحلّقت بدفء حول مائدتها، وفي الزاوية إطار وضع فوق المنضدة لصورة تجمع قاسم سليماني وحسن نصر الله. صور انتشرت بكثرة، للأوّل بعد اغتياله بغارة أميركية في بغداد مطلع 2020، وأُخَر للثاني بدأت تتكاثر بعد اغتياله بغارة إسرائيلية في بيروت في سبتمبر/ أيلول من العام الجاري (2024). تُوصل طهران رسائلها عبر الجداريات إلى الداخل والخارج في القضايا المختلفة، اجتماعيّاً وسياسيّاً ودينياً واقتصادياً.

تؤكّد طهران أن خيارها المفضّل للتواصل مع حكّام دمشق الجدد هو القنوات الرسمية والدبلوماسية 

كان خريف طهران قاسياً هذا العام. اغتيل حسن نصر الله ومعه قادة من الحرس الثوري الإيراني. وهرب بشّار الأسد على حين غرّة، وخرجت إيران من سورية. تقول المتحدّثة باسم الحكومة الإيرانية: “خلال ثلاثة أيام سبقت سقوط الأسد، أعيد أربعة آلاف من الإيرانيين من سورية”. يكمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الرواية: “بناءً على طلب طهران نقلنا أربعة آلاف عنصر من القوات الإيرانية من سورية. الإيرانيون كانوا قد طلبوا سابقاً المساعدة من روسيا في نقل وحداتهم إلى سورية، وهذه المرّة طلبوا مساعدتها في إخراجهم”. القيادي في الحرس الثوري الإيراني، وعضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني إسماعيل كوثري، يوضّح أن العناصر التي نُقِلت من سورية إلى طهران (بواسطة روسيا) لم تبلغ أربعة آلاف شخص، وأنه كان من ضمن هؤلاء مواطنون لبنانيون وأفغان ومن دول أخرى، يؤدّون مهام استشارية في سورية. لم ترق الرواية الروسية طهرانَ؛ يقول مساعد قائد مقرّ خاتم الأنبياء التابع للحرس الثوري الإيراني، العميد محمد جعفر أسدي، “ساعدنا الروس في نقل المواطنين الإيرانيين وغيرهم، لكن هؤلاء لم يكونوا من المستشارين العسكريين الإيرانيين، لأننا قمنا بسحب مستشارينا من سورية بشكل مستقلّ، إذ كان العديد من القوات تحت قيادة إيران في سورية من الشيعة الأفغان أو الباكستانيين أو السوريين، الذين نقلوا إلى إيران بسبب الظروف الأمنية والمذهبية، وبينهم بعض المدرّسين الإيرانيين الذين كانوا يعملون رسمياً في سورية، فطلبنا منهم العودة إلى إيران عبر لبنان”. رسمياً، وعبر المتحدّث باسم الخارجية ردّت إيران على تصريحات بوتين: “ليس غريباً أن تكون لدى الأطراف المعنية بالتطوّرات في سورية رواياتها الخاصّة حول أسباب التطوّرات، ودور الأطراف الفاعلة المختلفة بهذا الشأن”.
تقدم إيران سرديتها حول سورية في ثلاثة مستويات؛ تبرّر الماضي، وتفسّر الحاضر، و تترقّب المستقبل. يقول أحد الإيرانيين في منصّة إكس، تعليقاً على تصريحات غير مسبوقة أدلى بها أمين سرّ المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي أحمديان: “کلامكم عن النظام السوري وتعامله مع الشعب غیر مقبول تحدیداً في هذا التوقیت”. قال أحمديان لموقع المرشد الإيراني (وفي هذا دلالات كبيرة، من ناحية المتحدّث أو الجهة الناشرة): “مارس النظام السوري سلوكات غير مناسبة بحقّ الشعب السوري، ما أدّى إلى فجوة بين الشعب والحكومة، وكان هناك تحدّ قديم بينه وبين تيّارات فكرية داخل سورية منها الإخوان المسلمون”، موضحاً أن “الجماعات المعارضة في سورية، التي لها توجّهات مختلفة تجاه تركيا وسورية وإيران والشيعة وإسرائيل، كانت مجمعة على إسقاط النظام السوري”. حتى اللحظة الأخيرة، وقفت طهران إلى جانب نظام الأسد، وإن كانت قد أكّدت أنه ما كان لمستشاريها أن يقاتلوا بدل جيشه.
ندوات كثيرة تعقد هذه الأيام في طهران في مراكز الأبحاث والكلّيات والجامعات، إضافة إلى الرسمية بين الجهات المعنية في إيران، جميعها تناقش التطوّرات في سورية. يقول متحدّثون في هذه الندوات إنه كان على إيران الضغط على الأسد للقيام بخطوات سياسية. لم تستثمر إيران سياسياً ما قدّمته عسكرياً، وهو ما كشفته طهران متأخّرةً على لسان أكثر من مسؤول، بقولها إنها قدّمت النصح مراراً للأسد. التفسيرات الإيرانية للوقوف إلى جانب الأسد تأتي على خلفية معاداته إسرائيل، ومحاربة الإرهاب، كما تقول، ويستند دورها العسكري، كما تُعلِن، إلى ثلاثية الدفاع عن مصالح إيران الوطنية وعدم البدء بالهجوم وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. تمزّق الطوق الذي طالما فاخرت به إيران ودعمته في محاصرة إسرائيل، من الفصائل الفلسطينية إلى حزب الله وصولاً إلى الجسر السوري والداعم الحوثي، واقع تدركه طهران، لكنّها تقول إن حزب الله استعاد السيطرة على هيكليته، والتطوّرات في سورية لا تعني نهاية المقاومة.
يتفاءل الإيرانيون بحافظ الشيرازي دائماً، وفي أطول لياليهم حصّة كبيرة له. هو لسان الغيب كما يسمّونه، فلا ترضَ يا رب أن يجثم على قلبي غبار الظلم والبلاء، فإن مرآة حبّي الصافية تتكدّر وتصبح بغير ضياء”.
تناقش إيران في أروقتها السيناريوهات تجاه سوریة بعد سقوط نظامها الحليف، منها التقسیم والحرب الداخلية وسيطرة التطرّف والاحتلال… سيناريوهات تبعث قلق طهران، لكنّها تبعث في وسطه رسائلَ ومقترحاتٍ، فأمين سرّ المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي أحمديان يقول: “التيّار المعارض في سورية لا يشكّل تهديداً لإيران، لذا لم يكن من المقرّر أن نقاتل نيابةً عن الجيش السوري”. لذا، تؤكّد طهران أن خيارها المفضّل للتواصل مع الجهات الجديدة الحاكمة في دمشق هو القنوات الرسمية والدبلوماسية، في ظلّ استعدادات لإعادة فتح السفارة الإيرانية في دمشق.

منذ لحظة سقوط الأسد، قرأت إيران الحدث من زاوية المؤامرة الأميركية الإسرائيلية للقضاء على المقاومة، وأيقنت أن سورية خرجت من “المحور المقاوم

وفي محاولة لعدم الخروج من المشهد كلّياً، بعد الخروج العسكري من سورية، تواصل إيران خطواتها وتصريحاتها، وفي إطار سعيها للتحرّك بشكل ثنائي أو جماعي إقليمياً، تكشف على لسان وزير خارجيتها عن رؤيتها، “فالحكومة في سورية كما في أي بلد آخر يجب أن تكون انعكاساً لإرادة الشعب، وأن تكون شاملةً لجميع فئات المجتمع السوري، وأن تسهم في تمهيد الطريق إلى حوار وطني يضمن وحدة سورية وسيادتها ويحقّق الرضى الاجتماعي، مع الحفاظ على الاستقلال في إطار علاقات حسن الجوار”، ويزيد باقتراح سلسلة من الخطوات: “داخلياً، البدء بحوار وطني سوري سوري بهدف مشاركة الجميع، مع التركيز على مساعدة عودة اللاجئين، ودولياً، عقد مؤتمر بمشاركة جميع الدول المساهمة لإعادة إعمار سورية وتسوية ديونها، وأممياً، من خلال المنظّمات الدولية، والتشديد على تحرير الأراضي السورية ووحدة البلاد”.
بعيداً من الموقف الرسمي، تتفاوت الرؤى في إيران، فهذا إصلاحيٌّ يقول “إن طهران تخلّصت من فيل كان يكبّل أحد جناحيها”، في إشارة إلى سقوط الأسد. وذاك محافظ يعتقد أن الأيام ستُظهِر ماذا تعني خسارة سورية لإيران، ويقول: “إن على إيران زعزعة أيّ ترتيب جديد في سورية، إذا أدركت أنه سيكون ضدّها، من خلال التواصل مع بعض الكرد وبعض العلويين وبعض فلول النظام السابق”. وبين الرؤيتَين، تدرك إيران أن المواجهة مع إسرائيل باتت مختلفةً اليوم، وببراغماتية تحاول طهران الحفاظ على شعاراتها الثورية، بعد ما فعلته الآلة العسكرية الإسرائيلية بمحور المقاومة. عندما سُئِل عمّا إذا كان الأسد في أيّ وقت عضواً في محور ‏المقاومة، أجاب وزير الخارجية التركي هاكان فيدان: “على مدى الثلاثة عشر عاماً، التي شغلت فيها ‏منصب رئيس وكالة المخابرات، كنت على تواصل دائم مع الإيرانيين، وكنت ‏أقول لهم باستمرار إن فكرة أن الأسد واجهة للمقاومة تضرّ بإيران. فقد كانت ‏تلك الفكرة في حقيقة الأمر غير واقعية. بل كانت نكتةً، إذ كان الأسد بكلّ ‏بساطة يخدم إسرائيل”. اليوم، يقول أمين سرّ المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني: “دعمنا فلسطين وحزب الله لدرجة لم يعودوا معها بحاجتنا، والمقاومة باتت جزءاً من مجتمعات المنطقة. وظيفة إيران الآن هي تقوية الشعوب والعالم الإسلامي لمواجهة إسرائيل وليس فقط العمل العسكري”.
منذ اللحظة الأولى لسقوط الأسد، قرأت إيران الحدث من زاوية المؤامرة الأميركية الإسرائيلية للقضاء على المقاومة ضدّ إسرائيل، وأيقنت أن سورية خرجت من محور المقاومة، لكن رغم ذلك تقول اليوم على لسان مرشدها: “إن المقاومة مستمرّة وستتوسّع، وأتوقع أنه في نهاية مطاف التطوّرات في سورية ستؤدّي إلى ظهور مجموعة ذات عقيدة نبيلة قوية في سورية، فليس لدى الشباب السوري ما يخسره، لا يوجد أمن، لا في الجامعة ولا في المدرسة ولا في البيت ولا في الشارع، وكلّ حياته لا أمن فيها. لذا ماذا عليه أن يفعل؟ أن يقف بعزيمة وبقوة في وجه من خطّط لزعزعة الأمن ونفّذه، وسيهزمهم. غد المنطقة أفضل، من اليوم بإذن الله”.
“دومينو” غزّة – لبنان – سورية، هو خطّة إسرائيلية أميركية، تدعو طهران الجميع إلى الحذر منها، وخيار المقاومة هو الوحيد، يقول عبّاس عراقجي، بعد فشل محاولات التسوية والسلام، والحرب الكلاسيكية من أطراف مختلفة، لكن تشير أحداث العام الماضي إلى أن استراتيجية إيران الإقليمية القائمة على تعزيز محور المقاومة لردع التهديدات تواجه العديد من التحدّيات، “ممّا يتطلب إعادة تعريف ومراجعة بعض السياسات والأجندات على الأقلّ من الناحية التكتيكية”. قبل أسبوع من سقوط الأسد، يقول معاون الشؤون الاستراتيجية للرئيس الإيراني، محمد جواد ظريف، “رسّخت الجمهورية الإسلامية الآن مكانتها قوةً عظمى إقليمية، وهي مستعدّة للتفاوض مع الولايات المتحدة، باعتبارها زعيمةَ بقيّة دول المنطقة، للتوصّل إلى نسخة جديدة من اتفاقيات هلسنكي (اتفق عليها في السبعينيّات الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي للحفاظ على أمن القارة الأوروبية)، لكنّ دبلوماسية إيران، التي لم تهدأ طوال عشرة أيّام من (ردع العدوان)، غابت عن اجتماع العقبة بعد سقوط الأسد”.

ثمّة من يرى في إيران أن المقاومة باتت جزءاً من مجتمعات المنطقة، ووظيفة إيران تقوية الشعوب لمواجهة إسرائيل

أزهر “الربيع العربي” قبل نهاية خريف دمشق، لكنّ رياحه قلّبت الأوراق. صراع تغيير شكل الشرق الأوسط مستمرّ منذ عقود. وتدرك إيران ما يدور في رأس بنيامين نتنياهو؛ ضرب رأس الأخطبوط. فبعد عقود من ضرب أذرعه، سواء اقتصادياً أو سياسياً أو أمنياً أو عسكرياً، يبدو أن الوقت يقترب من لحظة مفصلية. ما تريده تلّ أبيب، وما تأمله طهران، أدخلا الصراع مرحلةً مختلفة في المنطقة. صحيح أن إيران لم تنفّذ تهديدها بالردّ على “أيّام التوبة الإسرائيلية”، التي استهدفت الداخل الإيراني (26 أكتوبر/ تشرين الأول 2024) بعد عمليتَي الوعد الصادق الأولى والثانية الإيرانيتَين ضدّ إسرائيل، إلّا أن طهران أكّدت غير مرّة أن الوعد الصادق 3 ستتمّ عند الضرورة وبعقلانية لا بتهور. وبين المواجهة المباشرة الإيرانية الإسرائيلية، التي يرى كثيرون، ومنهم وزير الخارجية التركي، أنها محتملة جدّاً، وأخرى اعتمدت طوال سنوات على الحرب بالوكالة، يقول رئيس تحرير موقع ميدل إيست آي، ديفيد هيرست، “على الرغم من أن نتنياهو يريد منا أن نعتقد بأنه حقّق كسباً في ‏سورية من خلال كسره سلسلة محور المقاومة الإيراني، لكنّ محوراً جديداً ‏يتشكّل سريعاً في أرض الواقع، توجد في القلب منه تركيا وسورية الجديدة ‏بقيادة الإسلاميين السنّة. وهذا من شأنه أن يعمّق التحدّيات التي تواجه إسرائيل، ‏إذ تمضي في توسيع دائرة المواجهة مع العالم السنّي الأشمل”. ذلك كلّه يأتي في وقت يستعدّ فيه العالم لعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وفي ظلّ ملفّات عدّة مفتوحة بين طهران والغرب، أبرزها الملفّ النووي الإيراني، ومصير الاتفاق بشأنه، فضلاً عن ملفّات داخلية معقّدة.
بدأ الشتاء في طهران، ولا تبدو الرؤية واضحة في شوارع العاصمة، مع تراكم التلوّث ووصول معدّلاته مستوياتٍ غير مسبوقة، مع نقص في إنتاج الكهرباء ناتج عن نقص تواجهه البلاد في الوقود. رغم ذلك، ليس هناك ما يمنع الإيرانيين من الاحتفال بليلة تشلّة. هو ليس احتفاءً بالظلام بقدر ما هو ترقّب للنور الذي يليه بحسب الرواية الإيرانية. فمع بداية الانقلاب الشتوي، تعود الشمس مجدّداً إلى الناحية الشمالية الشرقية، فيبدأ ضياء النهار بالازدياد، وتقصر مدّة الليل، فعلى ماذا يعوّل حائك السجّاد الإيراني، الذي تشابكت الخيوط بين يديه اليوم؟

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى