ربّما كان أهم تغيير أحدثه هجوم حركة حماس، في 7 أكتوبر (2023)، في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، تخلّي إسرائيل عن مفهوم الحروب القصيرة والهجمات الاستباقية المفاجئة والخاطفة في قلب أراضي العدو، وحسم المعركة بسرعة، وإخضاع العدو وردعه بتكبيده خسائرَ هائلة (كما حدث في حرب الأيّام الستّة في 1967)، إلى مفهوم الحروب الطويلة، التي تمثّل الحرب الإسرائيلية على غزّة أكبر نموذج لها. ومن المحتمل عودة شبح الحرب في الحدود مع لبنان، في ضوء الوضع الهشّ للهدنة بين إسرائيل وحزب الله، التي دخلت شهرها الثاني، بسبب ما يرتكبه الجيش الإسرائيلي في القرى الجنوبية من أعمال تدمير وقنص للمدنيين وتمركزات عسكرية، ومع بروز أصوات في الداخل اللبناني تنادي بعودة العمليات العسكرية لحزب الله، لردع خروقات الجيش الإسرائيلي، في ضوء عجز الجيش اللبناني عن ذلك، وعدم قدرة اللجنة الأممية في مراقبة تطبيق الاتفاق ومنع هذه الخروقات والتعدّيات.
وضع مؤسّسو الكيان مفهوم الحرب القصيرة المباغتة انطلاقاً من قناعتهم بأن إسرائيل بحاجة إليه كي تتمكّن خلال فترات الهدوء من بناء قوّتها العسكرية
وضع مؤسّسو الكيان مفهوم الحرب القصيرة والمباغتة انطلاقاً من قناعتهم بأن إسرائيل بحاجة إليه كي تتمكّن خلال فترات الهدوء من بناء قوّتها العسكرية، وترسيخ ردعها، وبناء جيشها بصورة تتلاءم مع التهديدات المُستجِدّة. لكن ما يجري، في غزّة وفي الحدود مع لبنان، والآن في الجبهة اليمنية، وربّما لاحقاً في جبهة الجولان، حيث توغّلت القوات الإسرائيلية بعد انسحاب الجيش السوري من مواقعه إثر سقوط نظام بشّار الأسد، ويبدو أن تمركزها هناك سيكون لمدّةٍ غير محدودة، كما يصرّح المسؤولون في إسرائيل… يحمل هذا كلّه إمكانية استمرار المواجهات المسلّحة على الحدود الجنوبية والشمالية والشرقية لإسرائيل.
قد يكون لجوء إسرائيل إلى مفهوم الحرب الطويلة أفضل تجسيد لعدم قدرتها على تحقيق الحسم من خلال حروب قصيرة وخاطفة، سيّما بعد تغير طبيعة الحروب التقليدية، من مواجهات ضدّ جيوش عربية نظامية، إلى مواجهات مع تنظيمات مسلّحة لا دولتية، تخوض حرب عصابات ومواجهات غير متناظرة من الصعب حسمها بتحقيق النصر المطلق على “العدو”، وأبرز مثال استمرار القتال ضدّ حركة حماس في غزّة، بعد أكثر من عام على اندلاع الحرب.
لكن، بدأ يبرز مع مرور الوقت منطقٌ سياسيٌّ إسرائيليٌّ جديد وراء الحروب الطويلة ضدّ خصوم تلّ أبيب، وهو الاستعاضة عن مبدأ الحسم العسكري من خلال إخضاع العدو، بمبدأ إنهاك العدو، واستنزافه مدنياً واجتماعياً وإنسانياً، وصولاً إلى إحداث تغيير جذري في الواقع الإنساني والمدني، يطمس ما كان قائماً، وبإيجاد واقع جديد ومختلف. وهذا ما يقوم به الجيش الإسرائيلي اليوم في شمال قطاع غزّة، تحت غطاء محاربة ما تبقّى من عناصر “حماس” في شمال القطاع، من عملية تطهير عرقي للسكّان، وتدمير منهجي للبلدات الفلسطينية بالطريقة عينها التي دمّر فيها الإسرائيليون القرى والبلدات الفلسطينية بعد النكبة الأولى (1948)، تمهيداً لضمّ شمال القطاع إلى إسرائيل، وبناء مستوطنات يهودية فيه من جديد.
لجوء إسرائيل إلى مفهوم الحرب الطويلة أفضل تجسيد لعدم قدرتها على تحقيق الحسم في حروب قصيرة وخاطفة
تستخدم إسرائيل في حروبها غير المتناظرة، سواء ضدّ حركة حماس في غزّة أو ضدّ حزب الله في لبنان، أداتَي ضغط ناجعتَين، إلى جانب الأدوات العسكرية التي لديها: إفراغ مناطق القتال المحاذية لحدودها من السكّان المدنيين، والسيطرة العسكرية على الأرض وتغيير معالمها. عمليات التهجير القسري التي مارسها الجيش الإسرائيلي في شمال غزّة، وفي جنوب لبنان، التي دفع المدنيون ثمنها الباهظ، لها تداعيات كارثية على الغزّيين في شمال القطاع، الذين يمنعهم الجيش من العودة إلى منازلهم، وإذا تمكّنوا من العودة لن يجدوا منازلَ قائمةً، تماماً مثل سكّان البلدات الحدودية في جنوب لبنان المحاذية لإسرائيل، الذين يمنعهم الجيش من العودة إلى قراهم، ويواصل عمليات تدميرها بذرائع وحجج مختلفة، وهؤلاء إذا عادوا لن يجدوا منازلَ لهم يسكنوها.
يجب أن نعترف اليوم بأن شمال القطاع مثل المنطقة الحدودية اللبنانية، واقعتان تحت الاحتلال الإسرائيلي، وكذلك الجزء السوري من هضبة الجولان. وهذا يوضّح كيف يساهم مفهوم الحروب الإسرائيلية الطويلة الدائرة في غزّة، وعلى نار هادئة في جنوب لبنان، في توسيع حدود إسرائيل، وإيجاد وقائعَ جديدة في الأرض لا يمكن تجاهلها. وتأتي هذه الاحتلالات الإسرائيلية الجديدة لأراضٍ عربية لتضاف إلى جرائم الحرب التي ترتكبها في غزّة، وتصعيد مواقفها العدائية ضدّ الدور التركي في سورية الجديدة، والكلام حالياً عن فرصةٍ لا تتكرّر لمهاجمة المنشأت النووية الإيرانية. ذلك كلّه يجعل إسرائيل أكبر مصدر لزعزعة الاستقرار في دول المنطقة، سواء القريبة من دولة الاحتلال أو البعيدة.
المصدر: العربي الجديد