في جذور التجاوزات وهل هي تصرفات فردية؟

حسام جزماتي

يريد البعض منا أن ننسى أجزاء أساسية مما حدث خلال أكثر من عقد من زمن الثورة، وأن نضبط ذاكرتنا على موعد انطلاق عملية “ردع العدوان” قبل قرابة شهر. وليت ذلك كان ممكناً على أي حال.

ففي غمرة الفرح الصارخ لدى جمهور الثورة نتيجة للانتصارات المفاجئة التي أسفرت عن سقوط النظام أخيراً، وحتى شعور غيرهم من الحياديين أن بداية جديدة على وشك الإقلاع في البلاد بعد استعصاء؛ مال كثير من السكان إلى أن يعدّوا هذه بداية من الصفر، الذي ربما حددوا له يوم رحيل بشار الأسد، من دون اعتبار لمعظم ما جرى قبل ذلك وآثاره.

التقطت قيادة “هيئة تحرير الشام” في طريقها السريع من إدلب إلى دمشق، الشروط الدولية المطلوبة لنيل المباركة السياسية؛ فنثرت التطمينات في كل اتجاه. وكان من نصيب الداخل السوري تطمين ضروري للأقليات، ولا سيما العلويين المتوجسين من الانتقام، وقد التزمت بذلك قواعد “الهيئة”، الجذلى بالنصر، التي تلقت تعليمات صارمة بأن الالتزام شرطٌ لخروج الجماعة من تهمة الإرهاب وعدّها شريكاً موثوقاً في الحكم، لإجراء انتقال سلمي يحافظ على تماسك المجتمع واستمرارية مؤسسات الدولة.

لم تمض سوى أيام قليلة، هي ما تحتاجه المهرجانات الوطنية الكبرى، حتى أخذت أخبار بعض “التجاوزات” تأتي ببطء من هنا وهناك، مما سهّل النظر إليها على أنها أعراض جانبية صغيرة طبيعية لتغيير كبير بحجم الذي جرى، وأنها “تصرفات فردية” لا تخلو منها قوات مسلحة في العالم..

والحال أن ما حصل في هذا الشأن، في الأيام الأولى، أثار دهشة الجميع، وإعجاب المجتمع الدولي الذي سارع إلى إرسال مبعوثيه وتوزيع التصريحات الإيجابية الواعدة، وامتنان الأقليات السورية القلقة التي صعد لديها أحمد الشرع “القائد”، الذي تخلى عن لقبه القديم أبي محمد الجولاني، إلى رتبة المخلّص، وبدا رجاله “فاتحين” من زمن رحيم آخر وإن تناقض مظهرهم الجهادي مع سلوكهم الذي كان يشع تسامحاً بشكل غريب.

لم تمض سوى أيام قليلة، هي ما تحتاجه المهرجانات الوطنية الكبرى، حتى أخذت أخبار بعض “التجاوزات” تأتي ببطء من هنا وهناك، مما سهّل النظر إليها على أنها أعراض جانبية صغيرة طبيعية لتغيير كبير بحجم الذي جرى، وأنها “تصرفات فردية” لا تخلو منها قوات مسلحة في العالم، وأن “القيادة” ستلاحق مرتكبيها وتعاقبهم.

وقد كان بالإمكان اعتماد هذا التفسير لو توافر شرطان أساسيان؛ أن تكون هذه القوات جزءاً من جيش منظم بقيادة مركزية، وأن يكون السلوك المطلوب منهم جزءاً من التأهيل السياسي والعقائدي الذي تلقوه في أثناء تكوينهم. ويغيب هذان العاملان، بصورة فادحة، في الحالة السورية الراهنة.

فمن جهة أولى لا تمثل “هيئة تحرير الشام” إلا جزءاً قليلاً من مجمل القوات الفاعلة حالياً التي ضمت معظم الفصائل مع تقدم المعارك. ومن جهة ثانية لم يتلق منتسبو “الهيئة” ما يعدّهم للدور الذي يلعبونه الآن بل العكس.

ومهما كانت الرغبة، الخبيئة وقتئذ، لدى قيادة الجماعة لسوقها في هذا الاتجاه، لأنه الوحيد المقبول وطنياً وخارجياً؛ فإن الظروف لم تساعدها على السير الجدي في ذلك قبل أن تفاجأ، هي قبل غيرها، بالنتائج السريعة للمعركة وقطافها الكبير والمسؤوليات المترتبة على ذلك، مما حملها على “التكويع” من دون تنبيه.

لا تنشر “الهيئة” مقررات التوجيه الشرعي التي تدرّسها للمتطوعين، ومن الواضح أن هذه المناهج، وإن تخلت عن السلفية الجهادية، تهدف إلى إقامة الدولة الإسلامية السنّية بصيغة ما، لا دولة المواطنة المدنية التعددية المتساوية التي اضطلعت بها الآن على حين غرّة.

أما الفصائل الأخرى فتتفاوت كثيراً في درجة الانضباط والتأهيل الأيديولوجي، ولم يكن عناصرها يهتمون لذلك بقدر ما كانوا نتاجاً بديهياً لمجتمع متوتر في الشمال، عمّده القصف الجوي وكوته ويلات البراميل.

لن ينفع تجاهل نتائج البعد الطائفي للصراع السوري في شيء، ففي الأصل كان أحدُ أسباب قيام الثورة هو المعاناة من التمييز على أساس هذا العامل في الجيش وفي القطاع العام.

ومع توالي سنوات الصراع كانت أسباب شد العصب الطائفي تتزايد، حتى اختُصر لدى كثيرين بأنه أصبح سنّياً علوياً مع دعم شيعيّ خارجي، وقد احتقنت النفوس بحدة حتى امتلأ الكأس بالدم وفاض ولم يشبع، وتوالت الثارات إلى أن أصبحت معالجتها ربما تحتاج إلى عقود.

دفعت الثورة ثمناً باهظاً لسنوات انكفائها الأخيرة، إذ تباعدت الشقة بين ناشطين مدنيين ومثقفين أصبحت غالبيتهم في المنفى، وبين تمثيل سياسي رسمي مترهل وعاجز، وبين حاضنة في الشمال، قبضت على الجمر كرهاً أو طوعاً..

ولن ينفع في ذلك خطاب مجاملة وطنية معدّ على عجل، يقول إننا كنا جميعاً ضحايا الخوف من النظام السابق أو مغسولي الأدمغة تحت تأثير دعايته الساذجة.. ذلك النظام الذي قيل كثيراً إنه كان يكنس الغبار ويخبئه تحت السجادة، ولن ينفع في مداواة آثاره قذف الغبار في الهواء بأمل ألا يقع فوق رؤوسنا مجدداً.

دفعت الثورة ثمناً باهظاً لسنوات انكفائها الأخيرة، إذ تباعدت الشقة بين ناشطين مدنيين ومثقفين أصبحت غالبيتهم في المنفى، وبين تمثيل سياسي رسمي مترهل وعاجز، وبين حاضنة في الشمال، قبضت على الجمر كرهاً أو طوعاً، فكان يحرق أيديها ويسمّم بالغضب نفوسها وأفكارها ونظرتها حتى إلى الناجين من أبناء الثورة.

وقد استُفزّ هذا الاحتقان بسبب ما أبدته “إدارة العمليات العسكرية” أولاً من ميل إلى المصالحة و”تسوية وضع” مقاتلي النظام السابقين، بل وبعض كبار ضباطه؛ مما حمل كثيراً من الفاعلين المسلحين على التفكير في المحاسبة أو الانتقام بالاعتماد على جماعاتهم الخاصة، حتى التفت “هيئة تحرير الشام” على ذلك بحملات عسكرية منظمة.

يحتاج المستقبل إلى سلوك طريق شديد التعرج بحذر كبير، وإلا فإن الانزلاق إلى حمام دم جديد أقرب مما نتوقع.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى