ها هي ساحات الحرية والكرامة على امتداد هذا الوطن، من شماله لجنوبه، تعود للحياة والنور بمشاعل الحرية من جديد، ففجر الحرية بات وشيك. ولدهشة ذات ذهول أن هذه الأيام تترافق مع اقتراب بدء الربيع العربي حين قرر طارق الطيب بوعزيزي في تونس أن يوقد النار في نفسه احتجاجاً على ظلم وقهر السنين. فقبل أربعة عشر عاما، في السابع عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2010 بدأ ركب الربيع العربي بالزحف والتوسع، بين إزهار وتفتح في بواكيره، وموجات من الصقيع وتبدلات في مساره درجة الوصول للكوارث خاصة في سوريا. وها هي الشام تكاد تصل لبر الأمان والسلام والحرية بعد طول انتظار…
تُرى هل كان يعلم البوعزيزي أن النار التي أوقدها في نفسه ستكون منار درب شاق وطويل من الحرية والألم والعذاب؟ هل يعلم أن الملايين من طلاب الحرية والحق والعدالة قضوا بين مقتول أو معتقل أو مهجر، وسوريا شاهدة على كبرى مجازر العصر الحديث! هل يعلم أن “فينيقه” الذي أوقد النور في ظلام استبدادنا تمدد في جملكيات بني عرب (الجمهورية الملكية حسب واسيني الأعرج في رواية رمل الماية) وأن سلطاتها لليوم لم تمل من قتل أو تخوين أو تكفير لأمثاله من المظلومين المضطهدين المقهورين في هذا الشرق الكليم. وما زالنا لليوم ندفع حياتنا وعمرنا قربان حرية وجود، حرية رأي، حرية وكرامة إنسانية، حرية وطن استبيح من كل نوافذ وأبواب العهر المحلي والعالمي، من كل معابر الاستبداد المادي والسياسي والعسكري والتطرف الأيديولوجي والديني دون كلل أو ملل من شهوة قتل وسطوة جاه!
بوعزيزي مات حراً ومئات آلاف السوريين مثله، وقافلة التوق للحرية تعاود دربها تجاه الشام مرة أخرى. فرغم هول ما تعرضنا له من كوارث لعقد ونيف مضى قلما شهد لها تاريخ البشرية من أعتى سلطات القهر التاريخي وأكثرها إجراماً، ها هي حلب وحماة، درعا والسويداء توقظ أبواب الحرية من جديد. اليوم يعود الشمال السوري وصولاً لبوابة حمص للحياة من جديد، يقابلها الجنوب بسهله وجبله والأخبار تتحدث عن انهيارات في صفوف نظام دمشق، ورأس نظامه يبدو أنه فر خارجها. فمنذ أيام وسكان الشمال السوري المهجرين منذ ما يزيد عن ستة أعوام يعودون إلى ديارهم وأرضهم وتاريخهم، يكنسون طغمة أعتى وأشد سلطات التاريخ إجراماً. اليوم تعود نواعير حماة للدوران بعد سنوات من الظلم والقهر والجريمة التي كرستها سلطة دمشق في حق الشعب السوري منذ عقود. سلطة مارست أشد طغيان التاريخ جبروتاً، كان نتيجته ملايين المهجرين ومئات آلاف المعتقلين وجرائم حرب بكافة أنواع الأسلحة العادية والمحرمة دولياً كالكيماوي وغيره، لكن نهر العاصي عاصٍ يأبى الرضوخ.
ربما الحديث السياسي عن اقتراب سقوط عصبة دمشق الحاكمة ينتابه كثير من التخوف والترقب حسب المتغيرات والتحولات في المشهد السوري والإقليمي والدولي، ومؤشراته الأقوى التصريحات الروسية في التخلي عن هذا النظام بعد أن حمته منذ 2015 لليوم من سقوطه العامودي، وهذا حديث سياسي لم ولن أعفو نفسي من الخوض في تفاصيله السياسة يوماً، وسأتابعه مع كل السوريين في مواقع أخرى حين نتحدث عن الدخول في المرحلة الانتقالية والمؤتمر الوطني الذي يحقق الحل الشامل لكل السوريين ويقرر مستقبلهم ودستورهم ونظام حكمهم دون تغول سلطوي من أي نوع كان. لكن، وهذه اللاكن فرحة يخالطها الدمع، في هذه اللحظات من حقنا ترك شؤون السياسة ولو قليلاً، خاصة وأن أية سياسة تتحدث عن المستقبل ستأتي على قدميها بعد زوال الاستبداد والدخول في مرحلة انتقالية. أما الآن فالفرحة تتملكني وكأني العائد لبيتي وتاريخي، لحياتي وناسي كما سكان حلب وريفها، وكأني الخارج مع المعتقلين من سجون الظلام السورية في حلب وحماة ودرعا والسويداء، وفعلياً طوال أعوامي السابقة أعيش حياة المعتقل بلا سجن، ويا لها من فرحة…
إذا هي الحرية، وسحرها الذي يسري في النفوس بهجة، مشعل النار واتقاد الفكر، مسار الروح في القدرة على الانفتاح والإبداع، قصة الإنسان الباحث، الصانع، الجابر، المفكر، المبدع، العامل، الفلاح حين يختار وجوده الحر في حيز الجماعة البشرية وبالضرورة الإنسانية. الحرية بوصفها جوهر العقل ومناط وجوده ومصدر أخلاقه وقيمه، هي تلك القافلة التي مضت، مع بدء الربيع العربي، في صحراء الاستبداد تهدم أركانه وتضعضع بناه المستقرة لعقود طويلة لتعلي من شأن الإنسان والعقل والقانون. الحرية ليست ذلك الشعار الأجوف كما ردده إعلام السلطات، بل هي مبتغى الحياة ومصدر سعادة الإنسان، هي ذلك الفضاء الذي يتحرك به المواطن، الإنسان، الفرد وفق مشروعية وجوده الانطولوجية أولاً والثقافية ثانياً والمنضوية تحت راية القانون والمسؤولية الأخلاقية والمدنية ضمن مظلة الوطن الواحد والموحد والمتنوع والغني بكل أطيافه ثالثاً. الحرية هي قبول الآخر المختلف في إطار الوطن واللحمة الوطنية مسيراً بدفتي) الشرعية الدستورية والحق والقانون (فتنفي لغة الإقصاء واغتصاب الرؤى والأفكار.
من هنا بدأ مشوار الحرية، من عمق القهر، من قاع الاستبداد المتجذر في نفعية ضحلة “مملوكية” لا تشبه من التاريخ سوى مرحلة الشرذمة والقتل المجاني في تاريخنا القابع في العصر المملوكي، بدأت من حيث أنها محاولة لكسر هذا الجمود ومراحله المتتالية من القتل والهدر الإنساني، بدأت ولم تتوقف لليوم. فحتى وإن تأخرت أو تعثرت أو هزمت في محطات، لكنها حفرت في العمق، في جذريتها، في أسطوريتها، في قدرتها على الصمود، وعلّ الأيام القادمة خضراء على كل الأرض السورية…
قافلة الحرية تمضي رغم تعثرنا مراراً، وها هي تعود لربوع الشام بعد أن كان العالم ينعي سوريا والسوريين، ها هي الروح الوطنية تستعيد جذوتها وألقها وتجتاحها تيارات الكرامة الإنسانية وحق تقرير المصير واستعادة قرارنا الوطني والبحث الجاد عن تشكيل عَقدنا الاجتماعي تحت عنوان سوريا للسوريين. سورية دولة سلام وأمان واستقرار، سوريا التي ستعمل كفاءاتها المغيبة لدهور على صياغة دستورنا العصري وتثبيت ركائز حياتنا القادمة. فمنذ أن نالت دول المنطقة استقلالها السياسي في منتصف القرن الماضي، استولت نظم العسكر على السلطة لتجهز على طباع المرحلة المدنية وتجتث الأفق السياسي منه منكلة بالطيف المعارض ولتستحيل ((الدولة)) إلى نموذج من الاستبداد المنحل في هيئة طغمة سلطوية حاكمة مدعمة بأجهزة أمنية شديدة القبضة؛ ولليوم لم يذق هذا الشعب طعم الفرح سوى هذه الأيام، وكأن العام 2011 يولد من جديد وسوريا تولد من جديد، ولكن هذه المرة ستكمل طريقها نحو الحرية والأمان والسلام.
أنبيك بوعزيزي، أنبيك مي سكاف وفدوى سليمان، غياث مطر وحمزة الخطيب وناصر بندق والآلاف الآلاف منكم، قافلة الحرية تتابع سيرها اليوم رغم كل القحط والتعثر الذي أصابنا لأعوام، وستبصر النور عما قريب. علّ القادم جبر خاطر وفرحة تعم كل بقاع هذا الوطن الكليم.
المصدر: تلفزيون سوريا