هذه هي اللحظة السياسية التي أزفت أخيراً، بعدما تلكّأت كثيراً في طول الطريق. ومن ثمّة، هذه هي المناسبة التي آن فيها أوان استعادة مقال صحافي قديم، نُشِر قبل أكثر من عقدَين مريرَين، وظلّ في البال، كتبه الصحافي اللامع والمثقّف الوطني الشجاع سمير قصير، ونشره في “النهار” اللبنانية في مطلع الألفية الثالثة، تحت عنوان “عسكر على مين”، وسط حراك سياسي ثقافي فعّال كان يَعِد بكبح تغوّل النظام الأمني اللبناني السوري المشترك، أو أقلّه الحدّ من تسلطه على سائر مفاصل الحياة العامة في بلاد الأرز، بمن في ذلك الوزراء والصحافيون وطلاب الجامعات، قبل أن يزداد ذلك النظام القمعي وحشيةً في ما بعد، ويفتك بحيوات نخبة متميّزة من الكتّاب والنواب وقادة الأحزاب، وكانوا كلّهم من لون سياسي واحد.
لم يسقط ذلك المقال الأيقونة من الذاكرة، ولم يفقد أهميته الاستثنائية طوال الوقت الطويل، إذ كثيراً ما كان يُتداول بإسهاب، ويُذكَّر بمغزاه كلّما اشتدّ قمع المثقّفين في لبنان، كما كان يُنفَض عن مضمونه الغبار كلّما انكشفتْ هشاشة العسكر خلال المواجهات مع الخصوم والأعداء، وأحسب أن هرولة العسكر السوري أمام المعارضة المسلّحة، في بدايات ثورة الحرّية والكرامة، المتجدّدة بأداء أفضل وخطاب أنضج ومضاء أشدّ، وشمول أسقط النظام، هي أكثر اللحظات ملاءمةً لاستعادة هذا المقال، الذي أودى بحياة صاحبه بعد نشره في وقت قليل، فذهب دم هذا الصحافي اللبناني الفلسطيني السوري دفعةً على حساب قائمة مديدة من المغدورين الكبار، بدءاً من سليم اللوزي وكمال جنبلاط، وليس نهاية برفيق الحريري وجورج حاوي.
على سبيل التحوّط والاستدراك، هناك تحفّظات مقبولة، وذات حساسية مفهومة سلفاً إزاء التعرض للعسكر في العالم العربي، لأن هؤلاء رمزاً سيادياً يوازي العلم والنشيد، وجيشاً وطنياً وحماة الحمى، وغير ذلك من التسميات الباعثة على الاعتزاز، إلا أننا اليوم (وهذا هو أوان استعادة مقال سمير قصير) أمام ظاهرة تتجلّى أكثر فأكثر مع مرور الوقت، وتبرز معالمها في أكثر من بلد عربي واحد، حيث يبدو العسكر فيها وكأنّهم كشّافة جون بادن باول، جنود توقّفوا، ليس عن الدفاع عن حدود البلاد والذود عن سيادة الوطن فقط، وإنما أيضاً توقّفوا عن حقهم الطبيعي المشروع في الدفاع عن النفس، حتى وإن تعرّضوا للقتل والاستهداف، على نحو ما بدت عليه هذه الظاهرة الشاذّة تتّسع خلال عام الإبادة الجماعية هذا، أكثر من ذي قبل.
نحن اليوم أمام ثلاث حالات متزامنة ومتماثلة، تُشكّل في مجموعها مقوّمات هذه الظاهرة العصية على الفهم، الأولى نشأت في لبنان منذ زمن بعيد، إلا أنها اتسعت نطاقاً في العدوان الجاري أخيراً، إذ سقط نحو خمسين جندياً وضابطاً بنيران العدو، من دون أن يُطلق واحد من زملائهم طلقة واحدة ولو في الهواء، ليس تلبية لنداء واجب الدفاع عن وطن مُعتدَى عليه، وإنما عن حقّ فوق قانوني لا مراء فيه، ألا وهو حقّ الدفاع عن الحقّ في الحياة. أمّا الثانية فقد لاحت مظاهرها في الحدود المصرية مع غزّة ثلاث مرّات على الأقلّ خلال حرب الإبادة، فقُتِل عسكر من “خير أجناد الأرض” من دون أدنى ردّة فعل.
أما ثالثة الأثافي، التي أمْلت في هذا الوقت بالذات استدعاء مقال “عسكر على مين” يا عسكر! فهي ماثلة بالصوت والصورة في هذه الأيام الفاصلة بين زمنَين مختلفَين، والمتراصفة على امتداد الطريق الواصل بين حلب وحمص وحماة ودرعا، إلى أن حطّت رحالها في دمشق، حيث هرول عسكر “الأسد أو نحرق البلد”، وانهاروا تباعاً بالجملة والمفرّق من دون قتال، لا دفاعاً عن “سورية الأسد”، ولا حتى عن النفس، في مشهد عزّز الظاهرة الشاذة، وعمّق في الوقت ذاته حالة التهافت والهرولة والاستسلام، وفوق ذلك أطاح سمعة العسكر والعقيدة العسكرية والجيش، وقوّض بشدّة مبدأ حقّ الدفاع عن النفس.
اليوم، وبعدما ولّى عهد القتلة، وانقضى زمن أجهزة الأمن السادية في الشام، أولئك الذين طغوا وتجبّروا وصادروا الحرّيات، وانتهكوا أبسط حقوق الإنسان، وأمعنوا في القمع والترويع والتسلّط والفساد والاستبداد، يحقّ لأصدقاء سمير قصير، ومحبّيه في كل مكان، القول: نم قرير العين أيها الفتى الجميل، فقد صدقت في تشخيصك حال العسكر، وها قد آن أوان طيّ صفحة من أهدروا دمك ذات يوم بعيد، ربّما إلى أبد الآبدين.
المصدر: العربي الجديد