الحلم المدفون

د- معتز محمد زين

أكاد لا أصدق.. هل أنا أحلم؟؟!!

ولدت و نشأت وكبرت وصور الأسد تواجهني في كل مكان وأجهزته تراقب حركاتي وتكتم أنفاسي في كل زمان حتى في أحلامي .. ما كنت أحسب أنني سأعيش إلى اللحظة التي أرى فيها صفحة الأسد تطوى وتتحرر سوريا من حكمه وجبروته..

نعم.. سوريا اليوم تتحرر..

تتحرر من الاستبداد.. من الطغيان.. من الرعب.. من الطائفية.. من كابوس سجن تدمر وصيدنايا.. من نظرة الاحتقار لرجل المخابرات وضابط الأمن.. من الجيش المجرم الذي يقتل شعبه.. من المحسوبيات والفساد .. من حكم العائلة.. من الجملة الكريهة ” نحنا الدولة ولاك”..

سوريا تتحرر.. لم يعد حلما.. لقد نفض الحلم المدفون غبار النسيان عن أطرافه وقفز من بحر الخيال نحو أرض الواقع ليصنع أجمل لحظاته..

هي لحظة تاريخية بكل ما في الكلمة من معنى وثقل ومشاعر وتراكمات.. هي لحظة تاريخية لمن فتح عيونه على الدنيا وصور الأسد تملأ جدران الشوارع والمدارس والمؤسسات وعلى عواميد الكهرباء وزجاج السيارات والدفاتر والكتب

وشهادات التخرج وأحيانا أبواب الحمامات ..

هي لحظة تاريخية لكل من تعود الهمس والتلفت يمينا وشمالا كلما غلبته نفسه و وخزته كرامته وفاضت من فمه كلمات تنتقد الرئيس الالهة..

هي لحظة تاريخية لكل سوري انهكت جسده ليالي السجون الباردة واتلفت روحه وحشية السجان وحقارة الضابط الذي يصدر له الأوامر..

هي لحظة تاريخية لكل ام قضت ليالي طويلة وهي تبكي على ولدها وغاية أملها أن تعرف حي هو أم ميت..

هي لحظة تاريخية لكل اب كريم طرق باب اللئام استجداء لمعلومة تخبره فقط عن مكان اعتقال ابنه..

هي لحظة تاريخية لكل ثائر فقد بيته أو أحدا من اهله أو طرفا من اطرافه تحت وقع زلزال البراميل التي اعتاد الأسد وكلابه رميها على المناطق السكنية تثبيتا لحكمه بأداة الرعب التي يتقنها ..

هي لحظة تاريخية لكل مهجر طرد من بيته وحيه وقريته ومدينته منذ سنوات طويلة لأن الأسد لا يقبل به مواطنا في مزرعته..

هي لحظة تاريخية لكل شاب هجر سوريا تجنبا للخدمة في جيش بلده الذي يهين مقدساته ويسب الله جهرا صباح مساء بشكل مقصود وممنهج..

هي لحظة تاريخية لكل أسرة سورية تقطعت اوصالها وتوزع أفرادها بين القارات وبات اجتماع أفراد العائلة الواحدة حلما بعيد المنال في ظل الدولة الاسدية ..

هي لحظة تاريخية لكل من سكن الخيام الباردة بعد أن دمرت براميل الأسد داره وتركته واطفاله بلا مأوى يستجدون لقمة الخبز وغطاء يقيه وأولاده صقيع الحياة والطقس..

هي لحظة تاريخية لكل معارض شريف تعبت قدماه من التجول بين فروع الأمن ثمنا لافكار خطرت له وكلمات خطها قلمه..

هي لحظة تاريخية لالاف السوريين الذين منعهم الأسد بقانون ظالم من العودة لبلدهم أكثر من أربعة عقود حقدا على موقفهم وعقيدتهم..

هي لحظة تاريخية لكل مفكر وكاتب وأديب وشاعر وفنان وعالم ومناضل  ومواطن وضع بجانب اسمه كلمة ” مطلوب” على حدود بلده لأنه تجرأ ورفع صوته رفضا للظلم والاستبداد والفساد في بلده..

هي لحظة تاريخية لكل إنسان يؤمن بكرامة البشر وحريتهم في التعبير  عن اراءهم..

هي لحظة تاريخية لكل سيدة محترمة نزعت حجابها سافلة من كلاب رفعت في شوارع دمشق ونسيت أن الله يمهل ولا يهمل..

هي لحظة تاريخية لكل سوري حر شريف يحلم بدولة يخدم حكامها الشعب ويحمي جيشها أسوار البلد و يتساوى فيها الناس جميعا أمام القانون..

نعم لقد سقط الأسد  وسقطت معه تلك المنظومة الأمنية الرهيبة المرعبة التي حفرت عميقا في عقولنا وقلوبنا وشخصيتنا وسلوكنا بل واحلامنا وعواطفنا.. سقط وسقطت معه حقبة سوداء من تاريخ سوريا.. سقط كي يولد الحلم من جديد .. واحلامنا نحن السوريين بسيطة.. دولة تخدم مواطنيها وترعى حقوقهم وتحفظ كراماتهم وتحترم مقدساتهم بدل أن تستعبدهم وتحتقر مقدساتهم ، وجيش يحمي أسوار البلد لا أسوار القصر الجمهوري.. هل هذا كثير علينا..

نحن اليوم على أعتاب مرحلة جديدة، لا أريد أن أبالغ وأنا بطبعي متوجس من كل ما يتعلق بالسياسة وأهلها، ولا أريد أن ارسم للمستقبل صورة وردية ، فالمرحلة المقبلة تشكل تحد حقيقي وكبير لشباب الثورة وقادتها، وربما تحمل الأيام المقبلة مفاجآت غير سارة لجمهور الثورة، لذلك شخصيا لا رغبة عندي الآن بالغوص في تفاصيل واحتمالات ومطبات المرحلة المقبلة مع أهميتها كي لا أفسد فرحة اللحظة.. أريد أن أفرح.. أبكي وأشعر بالنشوة وأسجد لله شكرا وأحلم بمستقبل أجمل لأبناء بلدي..

هناك فيض من المشاعر المبعثرة على رصيف الذكريات تدفعني

كي اصرخ عاليا.. يا شباب، يا رفاقي في المدرسة والحي والملعب والجامعة و المشفى، يا إخوتي و اقاربي، يا زملائي من كل الطوائف والمذاهب والاتجاهات، يا عالم، يا هوووو.. هذا ليس حلما.. لقد سقط الأسد.. لقد سقط نظام الرعب والخوف وفتحت للقلب السجين نافذة على ضفاف مملكة الحرية والكرامة…

هل فقدت رزانتي في الكتابة؟؟.. لا أدري، لكنها لحظة وجدانية فاضت من قلب رجل شاب رأسه رعبا وغيظا من نظام طائفي فتح عينيه على صورته المتوحشة ولا يريد أن يغمضها على ذات المشهد.. نفخت في الحلم المدفون روح الحياة.. لم يعد حلما.. أصبح حقيقة..

زر الذهاب إلى الأعلى