لنتذكّر أن إصدار محكمة الجنايات الدولية مذكّرتي اعتقال نتنياهو ووزيره المُقال غالانت لم يأتِ باليُسر الذي أصدرت به المحكمة نفسها مذكّراتٍ سابقة، قضت باعتقال بوتين ومعمّر القذافي وعمر البشير وغيرهم، فقد تلقّى مكتب المدّعي العام لهذه الهيئة القضائية العتيدة كريم خان مذكّراتٍ و”استشارات” ومطالباتٍ حاولت إبطال الجهد القانوني باتجاه القرار الفريد، بزعم عدم اختصاص المحكمة في الملفّ الذي فتحته بشأن الجاري في قطاع غزّة من جرائم حربٍ مشهودة، عدا ضغوطٍ وتهديدات، بعضها معلنٌ وصريح، تعرّض لها خان الذي راوغ، بعضَ الشيء، في أسابيع العدوان الإسرائيلي الأولى، قبل أن يلتزم بالضوابط والقواعد والأعراف المهنية التي تأخذ بها مقتضيات موقعِه شديد الحساسية والأهمية. لنتذكّر، في المقابل، أن 94 دولةً عضواً في المحكمة العتيدة ساندت النظر في الجرائم المرتكبة في القطاع، وأن جهاتٍ ومؤسساتٍ وهيئاتٍ ومنظمات مجتمع مدني وفرق محامين من دول عديدة (بينها دول عربية منها فلسطين والأردن وموريتانيا وتونس والجزائر) قدّمت مرافعاتٍ ومذكّراتٍ إلى هيئة المحكمة تدعم تسمية ما ارتكبَه نتنياهو وغالانت (وغيرهما من رؤوس العدوان في دولة الاحتلال) جرائم حربٍ تتطلب اعتقال هؤلاء. وعندما نتذكّر هذا الحال، وعندما لا ننسى أن مجلس النواب الأميركي أقرّ مشروع قرارٍ يفرض عقوباتٍ على محكمة الجنايات الدولية إذا حقّقت مع أشخاصٍ محميين من واشنطن أو حلفائها، أو حاكمتْهم، فذلكما يقول إن المحكمة كانت ساحة حربٍ شرسةٍ بين أنصارٍ للعدالة وللحقّ والحقيقة ومتواطئين مع المجرمين القتلة.
وعندما يتوعّد مستشار ترامب المعيّن للأمن القومي مايك والتز المحكمة والأمم المتحدة (والعالم) بما ستفعله الإدارة الأميركية المرتقبة في يناير/ كانون الثاني المقبل، فهذا من بين كثيرٍ يُنبئ أن فصولاً أخرى للمعركة بين أنصار العدالة في غزّة وأعدائها ستكون حادّة، سيما وأن دولاً، بينها أوروبيةٌ حليفةٌ للولايات المتحدة وصديقةٌ لدولة الاحتلال، أشهرت نيّتها تنفيذ قرار المحكمة اعتقال نتنياهو وغالانت، أو احترامها القرار وشرعيّته. ولولا إعلان رئيس وزراء المجر الذي يُرمى بالحمق فيكتور أوربان دعمَه نتنياهو، لكادت واشنطن تنفرد بإعلانها الساخط، والمتوتّر، تحدّيها القرار الذي أصاب إسرائيل بهستيريا من جنونٍ دلّ على فزعٍ مهولٍ من انكسار صورتها استثناءً في العالم، عندما تُصان جرائمها من المساءلة في ساحات العدالة الدولية، وقد بلغ الحال في نتنياهو أن يُشابه نفسه بالضابط الفرنسي اليهودي درايفوس الذي ظُلم باتهامه بالخيانة في القرن التاسع عشر، ما دلّ على أن مجرم الحرب في منصب رئيس وزراء يتوسّل استعطافاً ركيكاً، وهو يدفع عن نفسه التهم الثقيلة التي صادق عليها قضاة محكمة الجنايات الدولية بالإجماع، عندما أصدروا مذكّرتي اعتقاله ووزيره السابق غالانت.
وإذ حقّ للفلسطينيين أن يشعُروا، وهم في إحباطٍ باهظٍ بفعل جرائم الإبادة اليومية في غزّة، بشيء من البهجة لهذا القسط من الإنصاف، كما عبّرت عنه نزاهة قضاة المحكمة الرفيعة، فإنهم، في الوقت نفسه، مطالَبون بتنشيط ثقافة الاحتكاك بالعالم وتشبيك علاقاتهم بكل التشكيلات الحيّة في كل الأرض، فالتضامن الرفيع في أوساط متنوّعة في شعوبٍ بلا عدد، مع عدالة الحق الفلسطيني، ومع الألم شديد الفظاعة في غزّة، انضافت إلى ذخيرته الإنسانية والأخلاقية والسياسية قوةٌ قانونيةٌ عظيمة القيمة، تمثّلها مذكّرتا اعتقالٍ أصدرتْهما محكمةٌ دولية ذاتُ مكانةٍ ساميةٍ في العالم، ليستا كما أيّ مذكّرة اعتقال أشهرتها المحكمة سابقاً. ولم يكن الفلسطينيون ليُحرزوا هذا السلاح المتين، لولا جهود استثنائية، ساهمت فيها تمثيلات حقوقية وناشطة وأكاديمية وخبيرة من تشيلي والمكسيك وفرنسا وجنوب أفريقيا وبنغلادش، وبلاد آسيوية وأوروبية وأميركية لاتينية، ردّ كثيرٌ منها، وبعوْن محامين عرب ومسؤولين رسميين فلسطينيين، على محاولاتٍ نشطت فيها بريطانيا (وغيرها)، من أجل أن تصرف المحكمة الأممية مناظيرها القانونية عن القضية الموضوعة في مكتب المدّعي العام، والتي تتعلق بحالةٍ فلسطينيةٍ تتوفّر على كل الشروط التي تمنح جرائم الحرب في غزّة تسميتها المقيتة هذه ولا شيء غيرها.
تأخذ، إذاً، عدالة قضية فلسطين حيّزها العالي في أفقٍ كونيٍّ شاسع. ويحتّم هذا توسيع حدقات عيونِنا، ونحن ننظُر في العالم، كي لا نرى الكارهين وحلفاء الشر فقط، كي نرى بهاء أصدقاءَ لنا بلا عدد.
المصدر: العربي الجديد