لم نكن بحاجة إلى التدقيق بتفاصيل الاحداث التي تلت طوفان الأقصى والتي تنقلها الكاميرات ونشرات الاخبار يوميا من غزة وجنوب لبنان حتى ندرك طبيعة الغرب وعنصريته الكامنة واستراتيجيته الاستعمارية التي تشكل العمود الفقري لسياساته الخارجية ونظرته لسكان الكوكب وخطته للتعامل معهم على أساس من الاستعلاء والسيطرة تمهيدا لنهب الثروات واستغلال الموارد والكفاءات باستخدام كل الأدوات اللازمة لتحقيق هذه الأهداف بدءا من الغزو الثقافي والصراع الحضاري وزرع الهزيمة النفسية لدى شعوب الدول المستهدفة ، مرورا بالحصار الاقتصادي والترهيب واستعراض القوة واثارة النزاعات الاجتماعية والطائفية والمذهبية والحزبية لتفكيك الدول والمجتمعات والسيطرة عليها من بعد ، وصولا إلى الغزو العسكري واستخدام القوة المفرطة والقتل والتدميروالتشريد عند اللزوم .. والهدف واحد .. السيطرة على تلك الدول واخضاعها ونهب خيراتها والحاق الهزيمة النفسية والمعنوية بشعوبها منعا لأي محاولة نهوض أو تقدم أو استقلال حقيقي عن الغرب ..
لم يكن الباحث والمثقف البسيط بحاجة إلى هذا الحدث الضخم لكي يدرك حقيقة الغرب واستراتيجياته ، فكل التاريخ الغربي – فضلا عن الحاضر – يشهد بهذه الحقيقة ، وكل البقاع التي غزاها الغرب تعبر عن ثقافته وسياساته واستراتيجياته ، ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن أمريكا وأستراليا هما بلاد مستعمرة بأكملها قامت على أساس التطهير العرقي وابادة سكانها الأصليين و استبدالهم بسكان أوروبيين ، ولسنا بحاجة إلى الحديث عن الاستعمار الغربي المباشر لأفريقيا والمنطقة العربية ، والاستعمار عن بعد لذات الدول والمستمر حتى اللحظة .. كل هذه الحقائق معروفة وباتت أوضح من القدرة على تغطيتها بقناع من الشعارات السخيفة والمساحيق الحضارية والأيديولوجية المزيفة، لكن ما يحصل في غزة منذ سنة و حديثا في جنوب لبنان بات يقلع العين ( كما يقول المثل الشعبي ) إلى الحد الذي حرك الشرفاء في الغرب نفسه للصراخ من أجل إيقافه لأن درجة التوحش والعدوان والحقد والغدر والهمجية المنقولة على الشاشات فاقت قدرة الانسان الغربي غير المؤدلج على الاستيعاب والقبول والتغليف بالشعارات والتبريرات المعهودة .. لم يعد أشد المعجبين بالغرب واللاهثين وراء سراب حضارته وتقدمه واللاعقين أحذية ساسته قادرا على تبرير السلوك الصهيوني المتجاهل لكل القوانين والأعراف والمتجاوز لكل الشعارات والأدوات التي اعتاد الغرب استخدامها لتضليل الشعوب واختراق المجتمعات التي يغزوها ويحاول السيطرة عليها .. كل ما يحصل في غزة شاهد على ذلك ويكفي أن تعلم أن وزن القنابل التي ألقيت على غزة – مع صغر مساحتها – يفوق بأضعاف وزن القنابل التي ألقيت في الحرب العالمية الثانية على برلين ولندن ويفوق بأضعاف وزن القنبلة النووية التي ألقتها أمريكا على هيروشيما !!! ..
ولكن ( أجارنا الله مما بعد لكن ) .. اذهب إلى أوروبا وأمريكا ، وانظر إلى الحياة داخل دولهم .. هناك سيادة للقانون وفتح كامل لباب الحريات الشخصية وإلى حد ما الحريات الدينية ، لا يوجد تمييز بين مواطن أبيض وأسود ، أو عربي وغربي ، أو مسلم ومسيحي ويهودي وملحد ، الكل سواسية أمام القانون ، العنصرية محدودة ومحاصرة من قبل الدولة والمجتمع ، و أوروبا فتحت أبوابها للاجئين الهاربين من استبداد حكوماتهم ودعمتهم وأمنت لهم حياة كريمة فما تفسير ذلك ، وكيف تريدنا أن نكفر بالحضارة الغربية التي تتيح كل هذه الحقوق والحريات لكل من يقطنها ؟؟!! .. هذا السؤال يردده العديد من المهزومين نفسيا وحضاريا أمام الحضارة الغربية والذين أحرجتهم أحداث غزة في محاولة للهروب من الصورة الهمجية التي يرسمها الغرب الرسمي لنفسه عبر دعمه المطلق وغير المشروط للكيان الصهيوني والتي تتناقض كليا مع الصورة المرسومة في مخيلتهم عن الغرب ..
الإجابة على هذا السؤال هو ببساطة أن الغرب يعيش حالة انفصام حقيقية ومقصودة ..
نعم هناك مساحة واسعة للحريات ومتنفس للحقوق داخل الدول الغربية الكبيرة ( الاستعمارية ) ويحق للإنسان أن يعجب بها ويستفيد منها ، لكنها مخصصة فقط لدولهم وداخل حدودهم لأنها شرط لتحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي الداخلي اللازم لنجاح سياساتهم الخارجية القائمة على استعمار الدول الأخرى واستعباد شعوبها ونهب خيراتها سواء بالتحكم عن بعد أو بالاستعمار المباشر عند اللزوم ، وممنوعة في الوقت نفسه عن دولنا بقرار منهم وبتدخل مباشر أو غير مباشر حسب الحاجة .. ولكن الملاحظ أن الانسان الأوروبي الليبرالي الحر غير العنصري الخاضع للقانون داخل حدود بلده بمجرد أن يركب السفينة أو الطائرة متجها نحو الضفة الجنوبية أو الشرقية للبحر الأبيض المتوسط يتحول إلى انسان مراوغ متوحش همجي يقفز بسهولة فوق القانون ويدهس بحذائه على الشعارات ويتصرف بأسلوب يخجل الداعشي والمغولي من سلوكه البربري .. تتساقط شعارات الانسان الغربي ( الحرية .. الديمقراطية .. حقوق الانسان .. قوانين الحروب .. سيادة الدول …… الخ ) في طريقه نحو الشرق والجنوب ولا أدري ما الذي يتساقط معه في رحلته هذه بحيث يصبح عاريا من كل شيء إلا من حقيقته عندما تدوس قدمه أول أرض عربية أو افريقية أو شرقية، عندها فقط تزول الأقنعة ومساحيق التجميل عن وجهه ونفسه وروحه وثقافته ربما بأثر الحرارة العالية في بلادنا ، ذلك أن تلك الشعارات لم تكن يوما أصيلة في ثقافته وبنيته الفكرية والحضارية والاجتماعية .. ذلك أن تلك الشعارات هي في نظره مجرد أدوات وأقنعة يستعملها لاختراق المجتمعات المستهدفة والحضارات العريقة التي لا يمكنه التطاول امامها واختراقها إلا عندما يستخدم مفرداتها ويتبنى شعاراتها وقيمها ..
حقيقة الانسان الغربي البراغماتي المستعمر المتوحش تعكسها المشاهد اليومية للقتل والتدمير والتجويع والتشريد في غزة المدعومة سياسيا وإعلاميا ولوجستيا من المؤسسات الغربية ، والتصريحات الفجة المباشرة التي تصدر عن ترامب وفريقه والتي كان آخرها تصريح المعتوه راماسوامي عندما قال : أتمنى أن تضع القوات الإسرائيلية رؤوس القادة المائة الأوائل من حماس على أوتاد وتصفها على الحدود بين غزة وإسرائيل ، ذلك أن العرب لا تفهم إلا لغة القوة … . هذا هو الوجه الحقيقي للحضارة الغربية دون مساحيق وشعارات خداعة وأقنعة مضللة – ولعل هذه من ميزات ترامب وفريقه – ، حتى على مستوى الصراع التاريخي بين الأوروبيين أنفسهم ،والحروب البينية في أوروبا – فضلا عن حروبهم الاستعمارية – فإن التوحش والهمجية والحرق والتدمير ودهس القيم الإنسانية كانت مظاهر واضحة ومؤشرا حقيقيا يعبر عن مخزونهم الثقافي والحضاري والقيمي ..
في بلادهم ولأن مصلحتهم تقتضي الاستقرار والهدوء وسيادة القانون ترى ذلك الوجه الجميل الحضاري : حقوق وحريات وقانون ورفاهية وحرية تعبير ، وفي بلادنا ولأن مصلحتهم تقتضي الفوضى والصراع والفقر والتخلف ترى الوجه الاخر : قتل واغتصاب وتوحش وتدمير ومؤامرات وتحريض واثارة النزاعات ، وفي كلا الحالين المحرك هو المصلحة المحضة المعزولة عن القيم الإنسانية والحقوق والمبادئ والملامح التي تميز البشر عن سواهم ..
حالة الفصام هذه ظهرت فاقعة في حرب غزة الأخيرة التي يخوضها الكيان الصهيوني نيابة عن الغرب وبدعم وغطاء رسمي منه رغم خروج أصوات كثيرة حرة من الغرب ذاته تندد بهذه الوحشية والتجاوز العلني للقوانين الإنسانية والدولية والقتل الممنهج للأطفال والنساء والشيوخ والصحفيين والتدمير المقصود لمؤسسات الأمم المتحدة المسؤولة عن الإغاثة إلا أنها في النهاية مجرد أصوات عابرة لا تحدث أثرا مهما في الموقف الرسمي الغربي ، نحترمها ولا نعول عليها ..
نحن ببساطة أمام حالة انفصام حقيقي للمؤسسات الغربية ..
تدعو للديمقراطية وتقضي على نتائجها كما فعلت في غزة ومصر وتونس وغيرها ..
تندد بالاستبداد السياسي وتدعمه وتحميه وتفشل الثورات التي تحاول التخلص منه في بلادنا..
تتكلم عن حرية الاعلام وتقمع كل صوت يخالف توجهها وتستبعده من وسائل اعلامها ..
تنادي بحقوق الطفل والمرأة وتقتل يوميا مئات الأطفال والنساء في غزة ..
تطالب الجميع بالالتزام بالقوانين الدولية وتدهس تلك القوانين يوميا وبشكل علني في فلسطين ..
على المنابر قديسون ، وفي الميدان دواعش ..
شعارات البشر وسلوك الشياطين ..
مشكلتنا الجوهرية معهم هنا ، في هذا الفصام وهذه الازدواجية .. وهي في الوقت ذاته واحدة من نقاط التمايز بيننا وبينهم ، بين ثقافتنا وثقافتهم ، تاريخنا وتاريخهم ، حضارتنا وحضارتهم ..
في حضارتنا لا تقف القيم والقوانين والمبادئ عند حدود الجغرافية التي نعيش فيها .. القيم في حضارتنا الإسلامية عابرة لحدود الجغرافيا والعرق واللون والجنس والانتماء والمصلحة الضيقة .. والشواهد – حين كانت الحضارة الإسلامية هي المسيطرة – أكثر من أن تحصى …
لذلك أقترح على كل المغرمين بالحضارة الغربية ، المتشبثين بأهدابها ، الناطقين باسمها ، والمسبحين بحمدها أن يضعوا خطا طوليا ويقسموا الصفحة إلى نصفين عندما يريدون الحديث عن الغرب وشعاراته وحقوقه وديمقراطيته ، في النصف الأيمن يسجلون ممارسات الانسان الغربي الممثل للمؤسسة الغربية داخل بلاده ، وفي النصف الأيسر يسجلون ممارسات الانسان الغربي الممثل للمؤسسة الغربية خارج حدود بلاده ، ثم يقارنون ..عندها فقط سيكتشفون أنهم يتكلمون عن انسانين مختلفين أو عن انسان واحد مصاب بحالة من الفصام .. وليس ثمة طبيب يستطيع علاجها، ذلك أن الجسد الإسلامي عليل.
المصدر: غلوبال جستس