حوار عربي أوكراني

إبراهيم فريحات

بمبادرة أوروبية غير حكومية، انتهينا الأسبوع الماضي، في عمّان، من جلسات حوار عربي أوكراني استمرّت ثلاثة أيام، اتسمت بالمصارحة والشفافية، وبالبحث عن أرضية مشتركة لمواقف بشّأن الأزمات السياسية التي تعصف بالمنطقتَين (العربية والأوكرانية)، من حيث أسبابها وتطوراتها، وبالدرجة نفسها من الأهمية التحدّيات السياسية التي تواجه المنطقتَين، لا سيّما بعد وصول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ولما لذلك من أثر في السياسة الخارجية للدولة العظمى تجاه الصراعات في كلّ من أوكرانيا والمنطقة العربية.
جرى الحوار العربي الأوكراني ضمن ما يطلق عليه في علم المفاوضات والصراعات دبلوماسية “المسار الثاني”، الذي تشارك فيه قيادات مجتمعية، ومفكّرون وأكاديميون وقادة رأي، ولا يحضره ممثّلون رسميون حكوميون من أيّ طرف، ويكون بعيداً من الإعلام، إذ يهدف إلى تعريف الأطراف مواقفها، وفهمها للآخر، وتوليد فِكَرٍ جديدةٍ تساعد في التوصّل إلى تفاهمات مشتركة في المواقف المتباعدة. جرى الحوار على قاعدة ما يطلق عليه “تشاتام هاوس”، التي تسمح بنشر محتويات الحوار ونقاط الاختلاف والاتفاق من دون الإشارة إلى هُويَّة المشاركين أو مكان انعقاد الحوار.

اتفق المجتمعون من الطرفين في أن المصالح الإسرائيلية الأوكرانية ليست متماثلة، فهناك علاقة تنافسية في ما يخصّ الحصول على مخازن الأسلحة الغربية

ليس مستغرباً أن تستحوذ الإبادة الجماعية في غزّة على الحصّة الكُبرى من الحوار، ومن مواقف الأطراف الفاعلة في الساحة الدولية منها، وبالتحديد السقوط الأخلاقي والقِيَمي الغربي (حلفاء أوكرانيا) تجاه الإبادة، وكذلك، موقف أوكرانيا نفسها من الإبادة، والكيفية التي تنظُر بها إليها، لا سيّما في ظلّ هيمنة السردية الغربية على الخطاب السياسي الأوروبي بتعرّض أوكرانيا لغزو واحتلال وتهجير روسي. وبهذا الصدد، ميّز الوفد العربي في جلسات الحوار بين موقفَين رئيسَين في أوكرانيا تجاه الإبادة الجماعية في غزّة: الموقف الرسمي الأوكراني والمتمثّل في تصريحات الرئيسي فولوديمير زيلينسكي بعد أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، من اعتبار جرائم الحرب الإسرائيلية في غزّة “حقّاً إسرائيلياً في الدفاع عن نفسها”، وانتُقد بوصفه ليس موقفاً غير مبرّر “يشرعن جرائم حرب” ويدافع عن احتلال أراضي الغير بالقوة فقط، ولكنه أيضاً يمثّل بالأساس تقويضاً للسردية الأوكرانية والأسباب التي تُقدّمها للحرب فيها بأنها احتلال روسيّ مخالف للقوانين والأعراف الدولية، فالحرّية والكرامة والمقاومة ضدّ الاحتلال مبادئ لا يمكن تجزئتها أو اقتسامها، سواء في أوكرانيا أو فلسطين أو في أي مكان آخر. استند الموقف العربي في الحوار إلى رفض الاحتلال أيّاً كان، في البيان الذي أصدرته مجموعة من المثقّفين الفلسطينيين بعد أسبوعَين من الحرب في أوكرانيا، الذي نادوا فيه بالحرّية للشعوب في فلسطين وأوكرانيا، ورفضوا الاحتلال بأشكاله كافّة.
انتقد الوفد العربي بشكل خاص أيضاً موقف السيّدة الأولى في أوكرانيا أولينا زيلينسكي وتصريحها، بعد أحداث السابع من أكتوبر، بأن “الأوكرانيين يتفهّمون ويتشاركون الألم مع الشعب الإسرائيلي”، إذ اعتبر الوفد العربي أن مثل هذه التصريحات تنزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين، فتتألم السيّدة الأولى ليوم واحد عند الإسرائيليين (السابع من أكتوبر)، ولا يرفّ لها رمشٌ تجاه عقود من الألم والمعاناة للشعب الفلسطيني، وكأنّهم ليسوا بشراً يستحقّون التعاطف مع معاناتهم، وأن التاريخ بالنسبة للسيّدة الأولى لا يبدأ بالسابع من أكتوبر فقط، الذي يهمل كلّ ما حلّ بالفلسطينيين من نكبات قبل هذا اليوم، لا بل إن التاريخ توقّف أيضاً عنده، فأهملت السيدة أولينا عشرات آلاف من الضحايا الفلسطينيين الذين سقطوا نتيجة الإجرام الإسرائيلي بعد ذلك.
أثنى الوفد العربي في الحوار على الموقف المبدئي والمسؤول والجريء لأربعمائة من المثقّفين والفنّانين والصحافيين وقادة الرأي الأوكرانيين، الذين أصدروا بياناً تضامنياً مع الشعب الفلسطيني “الذي تعرّض وقاوم أكثر من 75 عاماً الاحتلال العسكري الإسرائيلي، وسياسات التطهير العرقي، ومصادرة الأراضي، والفصل العنصري”، حسب البيان، مستنكرين موقف حكومة بلادهم من القضية الفلسطينية. ويوجه هذا الموقف الملتزم مبادئ العدالة والحرّية لفلسطين رسالةً ليس إلى الحكومة الأوكرانية المنحازة للاحتلال الإسرائيلي فقط، التي انسحبت من مجموعة أصدقاء فلسطين في الأمم المتحدة، وامتنعت عن التصويت في الأمم المتحدة على مشروع قرار إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، ولكنّها أيضاً تأتي ردّاً على السقوط الأخلاقي للحكومات الغربية ذات المعايير المزدوجة التي دعمت حرّية الشعب الأوكراني، وتنكّرت لحرّية الشعب الفلسطيني داعمةً ومموّلة ومبرّرة إبادة جماعية بحقّه استمرّت أكثر من عام، ذاك السقوط الأخلاقي الذي عرّى الحكومات الغربية وكشف سياساتها الإمبريالية الداعمة للمشروع الكولونيالي في فلسطين.

سياسة “ازدواجية المعايير الغربية” تمارس ضدّ الأوكرانيين أيضاً، الذين يتراجعون إلى درجة ثانية عندما تكون المصلحة الإسرائيلية على المحكّ

وأوضح الوفد الأوكراني أن الحرب في بلدهم بالنسبة إليهم هي “حرب حفظ الهُويَّة الأوكرانية والحفاظ على كامل التراب الأوكراني، وحرب من أجل حرّية الشعب الأوكراني من أيّ احتلال أجنبي”، وأوضح أيضاً أسباب التقارب بين أوكرانيا وإسرائيل، ومنها العلاقات الأسرية المتداخلة بين الطرفَين، لأن هناك عدداً كبيراً من اليهود الأوكرانيين في البلدَين، وهناك تقارب في اللغة بين الطرفَين، إذ يتقن يهود عديدون في إسرائيل اللغة الأوكرانية، كما أن إسرائيل تنتمي ثقافياً للعالم الغربي، وهو ما يطمح إليه أوكرانيون عديدون بالالتحاق بالعالم الغربي، وتراهن أوكرانيا على الدعم العسكري من إسرائيل في حربها ضدّ روسيا. ومع ذلك، اتفق الطرفان في أن المصالح الإسرائيلية الأوكرانية ليست متماثلة، بل هناك علاقة تنافسية أيضاً، وبالتحديد في ما يخصّ الحصول على مخازن الأسلحة الغربية، التي تزوّد الطرفَين الإسرائيلي والأوكراني في حروبهما، فكلاهما يحصلان على الأسلحة من المصدر نفسه. وذكّر الوفد العربي نظيره الأوكراني بأن سياسة “ازدواجية المعايير الغربية” تمارس ليس ضدّ الفلسطينيين فقط ولكن ضدّ الأوكرانيين أيضاً، الذين يتراجعون إلى درجة ثانية عندما تكون المصلحة الإسرائيلية على المحكّ، وقد ظهر ذلك جلياً في تصدّي القوى الغربية الاستعمارية بنفسها للصواريخ الإيرانية الموجّهة ضدّ إسرائيل، فيما خضع الأوكرانيون لدرجات كبيرة من التقييد في استخدام الأسلحة الغربية في الحرب مع روسيا، ورفضت هذه القوى التدخّل بأيّ شكل يمكن أن يضعها مباشرة في وجه روسيا أو يُعرّض مصالحها للخطر.
وعبّر الوفدان العربي والأوكراني عن مخاوفهما تجاه سياسات الإدارة الأميركية الجديدة في واشنطن، ووصول دونالد ترامب إلى الحكم، وما يمكن أن يسبّب ذلك من بيع القضيتَين الفلسطينية والأوكرانية، المقبلتين على مستقبل مجهول في ظلّ ما يمكن أن تتمخّض عنه سياسات الجمهوريين في الحكم بالبيت الأبيض.
أخيراً، اتفق الطرفان على مواصلة الحوار مستقبلاً، الذي يشكّل فرصةً لفهم المواقف المختلفة، ويمكن للحوار أيضاً أن يشكّل فرصةً لتحديد معالم التعاون المشترك في المجالات المتعدّدة، ومنها العلمية والاقتصادية، فهناك كثير ممّا يمكن له أن يقرّبهما أكثر في مستقبل يسوده السلام والعدل والكرامة والحرّية… التي جميعها لا يمكن تجزئتها، مهما اختلفت الظروف المحيطة بها.

 

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى