بعد الحرب العالمية الثانية، وخروجها من عزلتها، أخذت الولايات المتحدة تحدّد العالمَ مجالاً لمصالحها الحيوية، ولأن هذه المصالح تحتاج إلى حماية، قامت بحمايتها في ثلاثة مستويات: المستوى الاقتصادي، من خلال مشروع مارشال لإعادة بناء الدول الأوروبية بعد الحرب المُدمِّرة التي خاضتها هذه البلدان، ما سمح لها بربط اقتصاد القارّة العجوز بالدولار، ومن ثم باقتصادها، وباتت قاطرة العالم الاقتصادية. المستوى السياسي، من خلال إقامة التحالف مع الدول لمواجهة خطر التمدّد الشيوعي، إذ أصبحت التحالفات الدولية تدور في فلك القطبَين اللذَين أدارا صراع الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية. المستوى العسكري، تمثّل حين شكّلت الولايات المتحدة وحلفاؤها حلف شمال الأطلسي (ناتو) في مواجهة حلف وارسو، القطب الآخر في صراع الحرب الباردة، وشكّلت القوة العسكرية الأميركية، الأكثر كلفةً في العالم، نواة الحلف.
ساد هذا الوضع خلال الحرب الباردة، وبعد انهيار القطب الآخر بانهيار الدول الاشتراكية، وتفكّك حلف وارسو، ومن ثمّ تفكّك الاتحاد السوفييتي نفسه. ترسَّخت الولايات المتحدة قطباً واحداً في العالم. أفقد هذا الوضع الولايات المتحدة عدوها الأساس في الصراع القديم، ولم يولد قطب آخر في مواجهتها، فاختلّت معادلات الصراع القائمة بين دول كُبرى بفقدان العدوّ.
مع هجمات تنظيم القاعدة في 11 سبتمبر، أعادت الولايات المتحدة تقيّم الوضع، ولم يعد العالم مجالاً لمصالحها الحيوية فحسب، بل أيضاً لأمنها الداخلي
مع هجمات تنظيم القاعدة في 11 سبتمبر (2001)، التي ضربت الولايات المتحدة في قلبها الاقتصادي والعسكري، مبنى التجارة العالمية، ومبنى وزارة الدفاع (البنتاغون)، أعادت الولايات المتحدة تقيّم الوضع من جديد، ولم يعد العالم مجالاً لمصالحها الحيوية فحسب، بل بات مجالاً لأمنها الداخلي أيضاً، الذي لم يعد منيعاً كما اعتقد القادة الأميركيون، وباتت المخاطر تأتي من تنظيمات صغيرة وليس من دول. وهذا ما جعل الولايات المتحدة تخوض حروباً فاشلةً لإعادة الاعتبار لردعها، فخاضت حروبها في احتلال أفغانستان والعراق، وأصبحت تلاحق المقاتلين الحفاة بأحدث الطائرات في جبال تورا بورا في أفغانستان، والأماكن البعيدة في اليمن، وغيرها من المناطق في العالم.
منذ عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (2023)، حين انهارت الدفاعات الإسرائيلية كلّها، من أسوار وأجهزة تقنية وقوات عسكرية، بنتها إسرائيل في مواجهة قطاع غزّة، ودخل مقاتلو “حماس” (وغيرهم) بلدات “غلاف غزّة” ومواقع عسكرية إسرائيلية، وعادوا بأسرى، ما شكّل فشلاً ذريعاً للإجراءات العسكرية ولنظرية الردع الإسرائيلية، التي اعتبرت حركة حماس في قطاع غزّة “مردوعةً”. منذ وقعت العملية، تحاول إسرائيل تصوير ما جرى وكأنّه تكرار للحادي عشر من سبتمبر الأميركي، بل يفوقه مرّات. وجاءت تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن الذي طابق بين الحدثين لتعزّز الرواية الإسرائيلية. لم تسعَ إسرائيل في هذا التشابه إلى تصوير مأساوية ما حدث فحسب، بل أرادت تفويضاً من الولايات المتحدة ودول العالم للقيام بما قامت به الولايات المتحدة في ردّ الاعتبار للردع الأميركي أيضاً، أي إطلاق العنان لوحشيتها وتعطّشها للدماء والانتقام، رغم النصيحة الأميركية التي استخلصت العبر من الحروب العبثية التي خاضتها الولايات المتحدة، وفشل ما أرادت تحقيقه من خلال احتلالها كلّاً من العراق وأفغانستان. فقد عادت حركة طالبان لحكم أفغانستان بعد عقدَين من ملاحقتها بالطائرات الأميركية في تورا بورا وغيرها من جبال أفغانستان، وجلب الاحتلال الأميركي إلى العراق أسوأ نخبة سياسية وأكثرها فساداً في تاريخ العراق، وحوّل العراق مسرحاً للنفوذ الإيراني عدوّ أميركا. وجاءت كلفة الحربين مهولةً، فقُدِّرت كلفتهما ما يعادل أربعة تريليونات دولار.
وما تريده إسرائيل من المطابقة بينها وبين الولايات المتحدة، بالحدث وبالفعل اللاحق للحدث، هو إطلاق يديها في المنطقة، مع تراجع أهميتها للولايات المتحدة، التي تنسحب من الشرق الأوسط لتعزيز وجودها في جنوب أسيا، على اعتبار الصين الخطر الأبرز عليها. كما أنها تسعى لأن تكون الطرف الذي يحدّد ما يجب فعله في المنطقة، حتى لو تعارض مع السياسة الأميركية. وقد كانت الحرب الوحشية على قطاع غزّة، ومن بعدها على لبنان، مثالاً لهذا السلوك الإسرائيلي برفض الطلبات الأميركية، فلم تستجب إسرائيل لطلب إدارة بادين بعدم دخول مدينة رفح، وقامت إسرائيل بالعملية العسكرية الوحشية في رفح، ولم يجد هذا أيَّ ردَّة فعل من إدارة بايدن التي استمرّت في الدعم العسكري والسياسي لعملية الإبادة التي تنفّذها إسرائيل في قطاع غزّة.
تقوم الإمبريالية الإسرائيلية في المنطقة على الجرائم، ومن ثمّ على الجرائم من جديد
تدير إسرائيل حروبها الجديدة بأقصى وحشية ودموية، ما استحقّ رفع دعوىً قضائيةٍ من جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل في محكمة العدل الدولية للنظر في جرائم الإبادة الجماعية التي تقوم بها (إسرائيل) في القطاع، وتسعى بذلك إلى ترسيخ نفسها إمبرياليةً محلّيةً في الشرق الأوسط، قادرةً على فعل الجرائم كلّها ضدّ الإنسانية من دون محاسبة، لأنها تتعامل مع “وحوش بشرية”، بحسب ما وصف عددٌ من قادة إسرائيل الفلسطينيين. فهؤلاء يجب القضاء عليهم، سواء كانوا قادةً، أم مدنين تدّعي إسرائيل أن مقاتلين يختبئون بينهم. ولا تتورّع أن تغتال إسماعيل هنيّة في طهران، ومحمد الضيف مع تسعين مدنياً، وقيادات حزب الله مع مئات المدنيين، والهجمات المتكرّرة منذ سنوات طويلة في الأراضي السورية.
في تاريخها الطويل بعد الحرب العالمية الثانية، لم تكن الإمبريالية الأميركية مُجرَّد منتقم وحشي، حتى تفرض ردعها على العالم، وفي كثير من الأماكن استخدمت “القوة الناعمة”، سواء في مشروع مارشال في أوروبا، أم في التعامل مع كوريا الجنوبية وتطوّرها، وغيرها من الأمثلة. وهذا لا يلغي الجرائم المرتكبة في فييتنام وأميركا اللاتينية والعراق وغيرها. أمّا الإمبريالية الإسرائيلية في المنطقة، فهي تقوم على الجرائم، ومن ثمّ على الجرائم من جديد. وغير ذلك على الآخرين أن يأتوا إلى السلام مع إسرائيل، كما تريده هي، من دون دفع أي ثمن، ومن دون اعتبار أن هناك احتلالاً إسرائيلياً للأرض الفلسطينية، “سلام مقابل سلام” فقط لا غير. وهذا لا يمكن توصيفه بأنه سلوك إمبريالية صغرى، بقدر ما هو سلوك بلطجي الحارة، الذي يريد إخضاع الجميع بالقوة، وليس شيئاً آخر غير القوة.
المصدر: العربي الجديد