لم يفاجئنا إعلان رئيس الحكومة الفاشية الإسرائيلية، نتنياهو، ووزير ماليته، بتسلئيل سموتريتش، نيتهم في دولة الاحتلال “فرض السيادة الإسرائيلية” على الضفة الغربية بكاملها، أي ضمّها وتهويدها، حال استلام دونالد ترامب مهامّه رئيساً للولايات المتحدة، فكل المسار الإسرائيلي منذ وُقع اتفاق أوسلو عام 1993 كان يسير في هذا الاتجاه. وتضمّنت خطة صفقة القرن التي طرحها ترامب في ولايته الأولى ضمّ المستعمرات الاستيطانية الإسرائيلية، بما فيها مناطق واسعة مما تسمى منطقة ج. كما لم تفاجئنا تحضيرات نتنياهو العسكرية لإبقاء احتلال قطاع غزّة، فمنذ بداية حرب الإبادة الإسرائيلية في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، حذرنا من أن نتنياهو ينوي إطالة أمد الحرب حتى انتخاب ترامب مجدداً، وأنه سيدفع بخطط تصفية القضية والحقوق الفلسطينية بالإبادة، والاستيطان، والتطبيع والضم والتهويد.
وعلى كل حال، كان مجمل سلوك الحركة الصهيونية منذ احتلال الضفة الغربية، بما فيها القدس وقطاع غزّة، يسير في اتجاه واحد، منع قيام دولة فلسطينية مستقلة، وضمٍّ وتهويدٍ تدريجي، بدأ بالقدس، ثم امتدّ إلى سائر أنحاء الضفة الغربية. ولم يكن اتفاق أوسلو، والحديث الغربي عن حل الدولتين، من دون ممارسة أي ضغط على إسرائيل لتنفيذه، سوى مماطلة في الزمن لإعطاء إسرائيل الوقت الكافي لتنفيذ توسّعها الاستيطاني، ولنسف أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة. ولم تتورّع إسرائيل عن تمرير القوانين، الواحد تلو الآخر، بإجماع أحزابها، في الحكم والمعارضة، نحو الضم والتهويد، بما في ذلك الأوامر والأحكام العسكرية، وقانون القومية، وأخيراً قانون منع قيام دولة فلسطينية.
ولم تكن إسرائيل، كما يدّعي بعضهم، بحاجة للسابع من أكتوبر (2023) كي تقوم بذلك كله، إذ نفذته على مدار 57 عاماً، بل منذ 76 عاماً عندما ارتكبت النكبة الأولى ضد الشعب الفلسطيني. والآن مع قدوم إدارة ترامب، بعناصرها الإنجليكانية الصهيونية المتطرّفة، والتي يفوق تطرّف تصريحات بعض أركانها، مثل السفير الأميركي المرشح في إسرائيل، مايك هاكابي، ووزير الخارجية المقترح، ماركو روبيو، تصريحات نتنياهو وسموتريتش اللذيْن يعتقدان أن الظرف صار مهيأ لتنفيذ حلم الحركة الصهيونية بتهويد كل فلسطين.
تصريحات هاكابي الذي قال إنه لا وجود للفلسطينيين، وإنهم كيانٌ مخترع “لسلب أرض إسرائيل”، والذي قال إنه لا وجود للضفة الغربية، بل هي يهودا والسامرة، وإن المستعمرات غير الشرعية هي مدن وبلدات إسرائيلية، تعني شيئاً واحدًا، أنه لا وجود للقانون الدولي، ولا وجود للقانون الإنساني الدولي، ولا قيمة لقرارات الأمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية. وبالتالي، يعيش العالم حسب شريعة الغاب، ومن يملك القوة يستطيع أن يفعل ما يشاء.
بعد ذلك كله، وبعد العد التنازلي لضم الضفة الغربية، وتصاعد عملية التطهير العرقي في قطاع غزّة، ما قيمة مواصلة الحديث عن “الشرعية الدولية” و”حل الدولتين” و”عملية السلام”؟!، وما قيمة معزوفة النفاق الغربي عن الحل السلمي والمفاوضات، وهو الذي أعطى إسرائيل المال والسلاح والحماية السياسية، كي تبطش بكل وحشية بالشعب الفلسطيني، بل ومنحها الوقت والخداع السياسي والدبلوماسي، كي تضعف مقاومة الشعب الفلسطيني مخطّطَ التصفية والفناء الذي يتعرّض له.
تظنّ المنظومة الإسرائيلية الحاكمة المتغطرسة أنها كلية القدرة، رغم فشلها في تحقيق أهدافها
والسؤال الأهم: كيف سيردّ الفلسطينيون، والعرب، والمسلمون وكل مدعّي الحرص على القانون الدولي وحقوق الإنسان والديمقراطية على إعلان الضم الإسرائيلي؟. … ليس أمام الشعب الفلسطيني إلا خيار واحد، مقاومة المخطّط الإجرامي ورفض الاستسلام له، بتوحيد صفوفه في قيادة وطنية موحدة على برنامج كفاحي نضالي، يجنّد طاقات كل مكوّنات الشعب الفلسطيني أينما وجدت، فالمسألة أصبحت أن يكون أو لا يكون، مقاومة التصفية أو الفناء. ولم يعد أمام المؤسسة الرسمية أي ذريعة لمواصلة التمسّك بوهمي الحل الوسط وحلّ الدولتين، و”الوساطة الأميركية”، وإن لم تتجاوز هذه الأوهام فسيتجاوزها الشعب الفلسطيني.
على الصعيدين، العربي والإسلامي، لم يعد هناك مبرّر للتقاعس عن قطع كل العلاقات مع الكيان الإسرائيلي المارق، وطرد سفرائه إن وجدوا، وإلغاء كل اتفاقيات التطبيع معه، والانضواء في دعوة عالمية إلى فرض العقوبات والمقاطعة على إسرائيل، ومعاملتها كما عومل نظام الأبارتهايد والتمييز العنصري في جنوب إفريقيا. ولم يعد باستطاعة أي دولة تجاهل الحقائق، أو الهروب من الخيار الحتمي، إما الوقوف إلى جانب الفاشية التي ترتكب أبشع جرائم الحرب، أو التصدّي لها ومناصرة حق الشعب الفلسطيني في الحرية والبقاء في وطنه وتقرير المصير، ولا يوجد حل وسط بين هذين الخيارين.
تظنّ المنظومة الإسرائيلية الحاكمة المتغطرسة أنها كلية القدرة، رغم فشلها في تحقيق أهدافها في قطاع غزّة ولبنان والضفة الغربية، وهو فشلٌ تحاول تعويضه بقتل المدنيين والأطفال والنساء العزّل، وبتدمير وحشي لمقومات الحياة، وهي غير قادرة، ولن تكون قادرة، على التعلم من دروس التاريخ. وتبنّيها الخيار الصفري، أي إما كل شيء أو لا شيء، يعبّر عن العنجهية، وعن قصر النظر في الوقت نفسه، فقبل نتنياهو وحكّام إسرائيل الراهنين، ظهر طغاة كثيرون، وارتكبوا جرائم لا تُحصى، وانتهى الأمر بهم في مزبلة التاريخ، بعد أن ألحقوا بشعوبهم نفسها مآسي هائلة.
يعيش الفلسطينيون اليوم الوضوح الأكبر في حياتهم للظروف والمهام والتحدّيات التي تواجههم
لا يمكن لأحد التقليل من حجم المعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وخصوصا في قطاع غزّة الصامد والمجروح، ولا توجد كلمات في الدنيا يمكن أن تعبّر عن ألم ملايين الفلسطينيين الذين فقدوا أطفالهم وأحبّتهم، ولكن حكام إسرائيل ومناصريهم من أتباع الصهيونية الإنجيلية يخطئون إن ظنّوا أنهم سيكسرون إرادة الشعب الفلسطيني، أو تصميمه على نيل الحرية، خصوصاً الآن، بعد أن وُضع أمام خيارين لا ثالث لهما، النضال أو الفناء.
كل جيش غازٍ في التاريخ البشري لم ينجح، وكل حربٍ شُنّت لم تنته بالنصر، إلا بكسر إرادة الخصم، وكل حروب إسرائيل ومعاركها ضد الشعب الفلسطيني لم تنجح في تحقيق ذلك الهدف، ولن تنجح هذه المرّة. ولربما سيفاجأ العالم بالأثر الذي سيتركه نضال الشعب الفلسطيني على كل شعوب العالم، وبمدى العزلة التي ستجد إسرائيل نفسها فيها، رغم دعم الإدارات الأميركية وإسنادها.
يواجه الفلسطينيون اليوم التحدّي والخطر الأكبر في تاريخهم كشعب، ولكنهم يعيشون، في الوقت نفسه، الوضوح الأكبر في حياتهم للظروف والمهام والتحدّيات التي تواجههم، بل لعلهم يحظون اليوم بالفرصة التاريخية الأكبر لخلاصهم.
المصدر: العربي الجديد