حرب غزّة والدبلوماسية الإنسانية القطرية

أمجد أحمد جبريل

لعبت المساعدات الإنسانية/ الإغاثية دوراً مهمّاً في تنفيذ السياسة الخارجية القطرية، إذ عملت القطاعات الحكومية وغير الحكومية في الدولة على تطوير “الدبلوماسية الإنسانية”، لتحقيق هدف دعم أهالي قطاع غزّة، لمواجهة تبعات الحصار الإسرائيلي منذ أكثر من 18 عاماً، واشتدّت وطأته بعد تمادي قوات الاحتلال في حرب الإبادة ضدّ المدنيين الفلسطينيين العزّل، خصوصاً شماليّ القطاع، في ظلّ عجز عربي وإقليمي ودولي عن وقف آلة الحرب الإسرائيلية، أو حتى مُجرَّد إرغام حكومة بنيامين نتنياهو على السماح بتدفّق المساعدات الإنسانية إلى غزّة من دون عوائق.
وفي سياق قراءة دلالات المساعدات التي قدّمتها الدوحة في أثناء حرب غزّة الراهنة، وفهمها من منظور “الدبلوماسية الإنسانية” القطرية، ودورها في تنفيذ سياسة قطر تجاه قضية فلسطين إجمالاً، ثمّة أربع ملاحظات: أولاها، استمرارية الدعم القطري لفلسطين، على الصعيدَين الإنساني والإغاثي، إذ ارتكزت المقاربة القطرية في هذا المجال على أربعة أسس: القدرة على الربط بين مسارات الوساطة والعمل الإنساني والدبلوماسية الإنسانية، في إطار توظيف أدوات “القوّة الناعمة” القطرية، على نحو يعكس التزاماً أخلاقيّاً ثابتاً تجاه الشعب الفلسطيني في محنته الطويلة؛ سرعة تحرّك الدوحة في تقديم الدعم استناداً إلى وجود لجان ومؤسّسات قطرية عاملة على الأرض قبل الحرب، سيّما اللجنة القطرية لإعادة إعمار غزّة، التي حافظت على تقديم منحة، تُقدر بـ360 مليون دولار سنويّاً لدعم سكان القطاع، والمخصّصة لتوريد الوقود اللازم لتشغيل محطّة توليد الكهرباء في غزّة، بالتعاون مع مكتب الأمم المتحدة لخدمة المشروعات (UNOPS)، وكذلك مبلغ المائة دولار التي تُصرف شهريّاً لمائة ألف أسرة متعفّفة، ومشاريع أخرى تنفّذها قطر في غزّة (التقرير الاستراتيجي الفلسطيني 2022-2023، بيروت، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، ص 364-365). ثالثاً، تكامل جهود القطاعات الحكومية وغير الحكومية في قطر، بوصفها أساساً لجهود الدبلوماسية الإنسانية القطرية، بالتوازي مع التعاون مع مصر والأردن لإيصال حزم المساعدات إلى غزّة؛ تنسيق مبادرات المؤسّسات القطرية (مثل اللجنة القطرية لإعادة إعمار غزّة، وصندوق قطر للتنمية، والهلال الأحمر القطري، وقطر الخيرية، إلخ)، مع شركاء محلّيين في غزّة، وكذا مع شركاء دوليين (مثل الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصّصة، خصوصاً وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”).

رغم فشل سياسة التحريض الإسرائيلي ضدّ دور الدوحة، مارست إسرائيل بالتعاون مع باحثين أميركيين تشويشاً صريحاً، ودعاية مضلّلة ضدّ قطر في الولايات المتحدة

وكان لافتاً في هذا الصدد، دور مؤسّسة قطر (Qatar Foundation)، ومؤسسة التعليم فوق الجميع، وبرنامج الفاخورة، في إطلاق برامج ومبادرات لدعم التعليم الشعبي في ظلّ حرب غزّة، بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة للسكّان والشركاء المحلّيين، عبر الاستفادة من جهود المتطوّعين الفلسطينيين لتنظيم الصفوف التعليمية في الحارات والتجمّعات السكنية للنازحين، بهدف توفير فرص التعلّم المستمرّة للطلاب الذين يعانون انقطاع الخدمات التعليمية بسبب تدمير المدارس والمرافق التعليمية. واستطراداً، نجحت مؤسّسة قطر، عبر هذه المبادرات والشراكات، في تنفيذ أكثر من 600 مبادرة مجتمعية، استفاد منها نحو مائة ألف شخص في القطاع المحاصر (أسامة سعد الدين، “الفاخورة”: قطر تمنح الناجين من حرب غزة أملاً”، “العربي الجديد”، 18/10/2024).
تتعلّق الملاحظة الثانية بتأكيد أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (24/9/2024)، استمرار دعم بلاده دور “أونروا”، التي لا يمكن الاستغناء عنها، على الرغم من الافتراءات الإسرائيلية ضدّها، إذ ترغب دولة الاحتلال عبر استهداف الوكالة وتشويه صورتها، في تصفية قضية اللاجئين، من دون حلِّ قضية فلسطين.
وتعهّدت قطر أيضاً، خلال مشاركة وزيرة الدولة للتعاون الدولي في وزارة الخارجية القطرية، لولوة الخاطر، في الاجتماع الوزاري للشركاء الرئيسيين لدعم “أونروا” (27/9/2024)، بتقديم دعم إضافي قدره مائة مليون دولار، في إطار استجابتها للأزمة الإنسانية في قطاع غزّة، بما في ذلك دعم الوكالة.
تتعلّق الملاحظة الثالثة باستهداف إسرائيل دور قطر، والمؤسّسات التابعة لها، إغاثية أو اقتصادية أو إعلامية، والرغبة الإسرائيلية الجامحة في منع وصول أيّ مساعدات إلى غزّة، إلا تحت إشرافها وبعد وضع العراقيل والمماطلات وتكرار ممارسة سياسة “الإغاثة بالقطّارة” (لا تسمن ولا تغني من جوع)، إذ أصبح واضحاً في هذه الحرب بالذات أن حكومة نتنياهو تستخدم الغذاء والدواء سلاحاً ضدّ المدنيين الفلسطينيين، ويتحوّل سماح قوات الاحتلال بمرور المساعدات حيناً (ومنعها في أغلب الأحيان) ورقةً تفاوضيةً لتكثيف الضغوط الإسرائيلية على قوى المقاومة الفلسطينية، وعلى الوسيطَين القطري والمصري، ما يكشف انتهاكاً إسرائيليّاً صارخاً لأحكام القانون الدولي، خصوصاً اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، التي تبنّتها الجمعية العامة للأمم المتحدة (9/12/1948). وليس بلا دلالة في هذا الإطار قصف قوات الاحتلال الإسرائيلي مقرّ اللجنة القطرية لإعادة إعمار غزّة (13/11/2023)، خصوصاً أنه جاء قبل عشرة أيام من إبرام الهدنة الإنسانية (24-30/11/2023)، بين قوات الاحتلال وفصائل المقاومة الفلسطينية؛ عبر الوساطة القطرية المصرية الأميركية.
وعلى الرغم من فشل سياسة التحريض الإسرائيلي ضدّ دور الدوحة عموماً، فقد مارست السلطات الإسرائيلية (بالتعاون مع باحثين أميركيين) تشويشاً صريحاً، ودعاية مضللة ضدّ قطر في الولايات المتحدة، وذلك عبر ترويج انحياز الدوحة لحركة حماس، على نحو يُعرّض العلاقات القطرية الأميركية لاختبار حقيقي، بحسب منطق هذه الدعاية (سايمون هندرسون، “علاقات قطر مع واشنطن وإسرائيل في مرحلة اختبار”، تحليل السياسات، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، 24/10/2023).
كذلك برز، ضمن التراشق السياسي الحزبي الإسرائيلي، انتقاد قِوىً إسرائيلية نتنياهو، لتساهله مع حكم “حماس” قطاع غزّة، إلى درجة تسهيل حركة الأموال القطرية لدعم “حماس”، بيد أن الأدهى نجاح حكومة نتنياهو في توظيف حالة صدمة الدولة والمجتمع الإسرائيليَّين، بعد هجوم 7 أكتوبر (2023)، في إطلاق أيدي تيار اليمين الصهيوني والمستوطنين المتطرّفين، في مهاجمة قوافل المساعدات المتجهة إلى غزّة، وكذا في إبراز الآراء المطالبة بإعادة استيطان غزّة، وتهجير الفلسطينيين منها، وإعادة احتلال أجزاء من قطاع غزّة.

يمكن أن تقدّم الدول العربية والإسلامية مساهمات ملموسة في مجال الدبلوماسية الإنسانية، كما تثبّت الخبرة القطرية في هذا الصدد

تتعلّق الملاحظة الرابعة بإمكانية أن تقدّم الدول العربية والإسلامية مساهمات ملموسة في مجال الدبلوماسية الإنسانية، عبر توظيف نقاط قوتها وعلاقاتها الدولية في ذلك، كما تثبّت الخبرة القطرية في هذا الصدد، علماً أن عجز الدول العربية والإسلامية عن إغاثة قطاع غزّة شكلاً، فضلاً عن عدم الشروع الفعلي في إنهاء حصار غزّة بالكامل، لا يزالان اختباراً حقيقيّاً لأدوار الدول العربية والإقليمية، سيّما في تنفيذ البيان الختامي للقمة العربية الإسلامية في الرياض (11/11/2023)، خصوصاً البند الثالث “كسر الحصار على غزّة، وفرض إدخال قوافل مساعداتٍ إنسانيةٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ ودوليةٍ؛ تشمل الغذاء والدواء والوقود، إلى القطاع فوراً، ودعوة المنظّمات الدولية إلى المشاركة في هذه العملية، وتأكيد ضرورة دخول هذه المنظّمات إلى القطاع، وحماية طواقمها وتمكينها من القيام بدورها الكامل، ودعم وكالة أونروا”.
وعلى الرغم من الإخفاق العربي والإقليمي والدولي في الضغط لوقف حرب الإبادة الإسرائيلية، لأكثر من 13 شهراً متواصلة، فإن قرار كسر حصار غزّة وتقديم المساعدات الاقتصادية والإنسانية والإغاثية المطلوبة، يبقى ممكناً، عبر بناء ائتلاف عالمي (رسمي وشعبي) داعم لكسر الحصار، والعمل على استثمار عودة قضية فلسطين إلى الأجندتَين الدولية والإقليمية في تنسيق المواقف مع القوى الإقليمية والدولية التي تعارض السياسات الإسرائيلية، ودعم مبادرة تركيا في الأمم المتحدة لوقف بيع الأسلحة والذخيرة لإسرائيل، التي وقّعتها 52 دولة، وكذا دعم الدعوات الإسبانية والفرنسية في هذا الصدد، خصوصاً مع عودة المظاهرات الشعبية العالمية المتضامنة مع الشعب الفلسطيني، وخسارة المرشّحة الديمقراطية كامالا هاريس الانتخابات الأميركية، بسبب موقف إدارة بايدن من حرب غزّة، الذي نجح نتنياهو في التلاعب به، ما يطرح تساؤلاً جديّاً عن إمكانية أن تذهب واشنطن في الشهرين المتبقيَّين من عمر الإدارة الديمقراطية نحو معاقبة إسرائيل رمزيّاً، مثلما فعل الرئيس الأسبق باراك أوباما، عندما سمحت واشنطن بتمرير قرار مجلس الأمن رقم 2334 (23/12/2016)، الذي طالب إسرائيل بوقف الاستيطان في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وأكّد عدم شرعية إنشاء إسرائيل للمستوطنات في الأرض المحتلّة منذ عام 1967.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى