ما تتباهى به الأنظمة التسلطية وكذلك الأحزاب والميليشيات التي تعتمد على خلفية أيديولوجية شمولية، بمعنى امتلاكها لأيديولوجيات -سواء كانت دنيوية تدعي الصوابية، أم سماوية تدعي المعصومية- لديها الإجابات والحلول للأسئلة جميعها التي يطرحها الواقع المتغير، أيديولوجيات تمكّنها من تحويل الهزائم القاسية التي تتلقاها من العدو إلى نصر تحت مبررات لا معنى لها، أو تبلغ من التفاهة حداً لا مثيل له، غير آبهة بتدمير البلاد كمكان وبشر واقتلاعهم والعبث بحياتهم، في حين تواجه الشعب أو الجمهور في الداخل بطريقة انتقامية تكشف إلى حد كبير عجزها الرهيب أمام العدو، فتصب كل حقدها على هذا الجمهور بكل أشكال القتل من الحصار والتجويع والاعتقال والرصاص، حتى الكيماوي. فالمهم لها فعلاً هو استمرارية تسلطها، وأيديولوجياً من أجل سمعة “برستيج” العقيدة، التي لا يمسها الخطأ.
يمثل نظام البعث الذي تولى السلطة منذ انقلاب آذار 1963 حالة نموذجية لهذه الأنظمة التسلطية اللصوصية، هذا النظام الذي احتلت فيه العائلة الأسدية الفترة الأكبر (حوالي 44 عاماً)، والذي جسد حالة يمكن عدها باراديغماً خالصاً لممارسة كهذه: الهزيمة أو الانسحاب الكامل أمام العدو الخارجي، والمواجهة بالعنف المفرط بوجه الشعب.
والأمر ليس حكراً على الأنظمة “الثورية” العتيدة وحدها، وإنما ثمة أحزاب وحركات كثيرة نمت في ظل ظروف القمع الذي تمارسه الأنظمة تلك، وممارسات إسرائيل الإبادية بحق الشعب الفلسطيني، فجعلت من الباراديغم “الثوري” الأسدي هذا نموذجاً لها يقوم على خطاب أيديولوجي يدعي نصرة الشعب ومقاومة الظلم أو العدو، في حين يمارس قهر الشعب أو الجمهور طالما أن الحزب أو الحركة وزعامتها باقية.
يمكن استعراض عدة حالات تظهر هذا التشابك بين الخطاب والممارسة “الثورية”، فحرب حزيران 1967 التي مثلت أقوى هزيمة تلقتها سوريا مع مصر بتاريخ الصراع مع إسرائيل، التي احتلت فيها أراضي من أربع دول عربية خلال فترة زمنية قياسية (ستة أيام)، وألحقت هزيمة مذلة بجيوش دولتين تعلنان التعبئة ومحاربة إسرائيل (مصر وسوريا)، في حين خرج الإعلام بتبرير جسّد بواكير ذلك الخطاب بادعائه أن إسرائيل لم تنتصر لأن هدفها تدمير الأنظمة “التقدمية”، وها هي باقية (بالطبع على صدور الشعب)! تكرر الأمر في الحروب اللاحقة، وأهمها عندما اجتاحت إسرائيل بيروت في صيف 1982، حين تلقى النظام أقوى خسارة في السلاح الجوي، وانتهت تلك الحرب بإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان إلى الشتات، مشكّلة نقطة فاصلة في الصراع العربي -الإسرائيلي.
يمثل حزب الله، الذي تأسس بدعم من الحرس الثوري الإيراني بعد اجتياح بيروت عام 1982، نموذجاً لقوة غير حكومية تستند إلى خطاب المقاومة ضد العدو، معتمداً على أيديولوجية مستمدة من ولاية الفقيه. هذا الحزب، الذي ترسخت قوته خلال عقد من الزمن، بات يُهيمن على المشهد السياسي في لبنان، متجاوزاً خصوصياته وبيئته الحرة نسبياً، مستغلاً السلاح والمال لفرض رؤيته “مقاومة” إسرائيل. هذا الواقع دفع القوى السياسية اللبنانية إلى الرضوخ. وتحوّل حزب الله إلى المتحكم الفعلي بمصير البلاد، مما أدخل لبنان في حربين مدمرتين مع إسرائيل (عامي 2006 والحالية)، أسفرتا عن تدمير كبير ونزوح واسع للسكان، في حين يدّعي الحزب إعلامياً عدم نجاح إسرائيل في تحقيق أهدافها.
يمثل النموذج الآخر لهذه الذهنية الأيديولوجية، ميليشيا حزب الاتحاد الديمقراطي وواجهته السياسة، فتلك الميليشيات تتطلب تلك الواجهات. تتبنى هذه الميليشيا أيديولوجيا هجينة من الماركسية التي طورها أوجلان إلى أيديولوجية أخوة الشعوب، التي تنادي بالتعايش بين جميع سكان المنطقة، وحقها الديمقراطي في حكم ذاتها، وبالطبع ضمن منظور أوجلاني -ماركسي لا يخطئ. خلال الثورة السورية، كانت سياسة الميليشيا تلك هي البراغماتية الانتهازية التي تعاونت مع أسوأ نظام قمعي عرفته البشرية، وهو نظام الأسد من أجل تجسيد حلمها الأيديولوجي على بقعة جغرافية ما، فكان المثال الواضح لكشف زيف الخطاب هذا من خلال المواقف القمعية للمتظاهرين وتهجير السكان العرب من مناطقهم، حتى سحل الجثث وعرضها بمهرجان بين جمهورها في تعبير حي عن “أخوة” الشعوب الأوجلانية. ورغم الخسارات الكبرى التي تعرضت لها، لكنها تحافظ على خطابها المظفر طالما أن القيادة والحزب لا يزالان ينعمان بسلام.
مع انطلاقة ثورات الربيع العربي مطلع عام 2011، تبين أن حرب النظام وهذه الأحزاب “الثورية” الحقيقية هي بمواجهة الناس في الشوارع، حيث واجهوا الناس بمختلف الأسلحة من الرصاص الحي حتى الصواريخ والطائرات والكيمياوي، لدرجة يمكن للمرء أن يتساءل هل ثمة اتفاق بين تلك الأطراف والعدو المزعوم يتمثل في تدمير الشعب وحتى إبادة مكانه، ومنعه من نيل حريته واختيار نظامه؟ تشير الممارسات التي تشارك بها بشكل مباشر أو غير مباشر، سواء كان هناك اتفاق مكتوب أم لا، الأطراف “الثورية” هذه مع نظام الإبادة الأسدي في تعاملهم مع المتظاهرين الذين نشدوا الكرامة والحرية إلى جذر مشترك استبدادي كامن في الأيديولوجيا، بغض النظر عن الفوارق بينها (دنيوية أو سماوية)، همه استمرار التسلط حتى لو كلف حياة كثيرين، ولو هجر أكثر!
هل ثمة تناقض بين ممارسة وخطاب نظام الأسد وتلك الأحزاب العقائدية، تناقض يتجلى في رفع شعارات مناصرة للجمهور أو للمستضعفين حسب لغة بعضهم، وسحقه من جهة أخرى، أم أن هناك تلازم بين ذلك الخطاب والممارسة المشينة التي أسهمت في تدمير البلاد وتهجير أهلها؟ ربما الاستعراض البسيط لمجريات الأعوام الأخيرة سواء في سوريا أو لبنان تجيب عن ذلك. فمن يجتاح المدن ويدمرها ويهجر أهلها ويقتلهم ويخنق الأصوات الحرّة فيها لا يمكن أن يكون في صف الناس ومقاوماً للإمبريالية وإسرائيل، مهما كانت الأيديولوجية التي يستند إليها، دنيوية أم سماوية، فشرط المقاومة الأول هو الحرية، وهم أعداؤها.
المصدر: تلفزيون سويا