تابع كاتبُ هذا المقال باهتمام كثير زيارةَ الرّئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المغرب وما تضمّنته من قرارات وتصريحات وأحداث. ولكن ما استرعى انتباهه في الإعلام الفرنسي تناولُ قضايا جانبيةٍ مركّزة في حضور بعض الشّخصيات في الوفد الفرنسي من أصول مغربية، كما استرعى انتباهه الحديثُ عن التّجاذب السّياسي الفرنسي بين البلدَين الأكبر في المنطقة المغاربية، الجزائر والمغرب، ما يدفع الكاتب إلى طرح سؤال: أين مصالح منطقتنا المغاربية من منطق السّياسة الفرنسية وأهدافها؟
بدايةً، لن يكون الحديث عن الخلافات الجزائرية المغربية، لأنّ محلّ بسطها والجدال بشأنها يكاد يكون شأناً حصرياً للفاعلين الرسميين. وبالرغم من المواقف المبدئية من قضية الصحراء الغربية، فإنّ ما انصبّ الحديث عليه دوماً هو مصالح البلدَين الأكبر من الخلافات والتجاذبات السياسية كلّها، من هذا الطرف أو ذلك، وخاصّة فرنسا، التي تتلاعب بمصالح المنطقة وتعطّل كثيراً من المشاريع الكُبرى، منها حلم العمالقة الذين قادوا الحركة الوطنية في البلدَين والمنطقة منذ 1926، عندما أُعلن ميلاد نجم شمال أفريقيا، وكان محور حديث قائدها آنذاك، الرّجل التّاريخي مصالي الحاج، هو المشروع الاستقلالي للمنطقة، أي لبلداننا الثّلاثة، قلب المغرب العربي التّاريخي، إضافة إلى تضمُّن بيان الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 1954 (أعلن بدء المشروع المسلّح لتحرير الجزائر)، أن الثّورة التّحريرية الكبرى هي ثورة لمشروع مغاربي كبير.
تأتي زيارة ماكرون المغرب على خلفية خلافات كبيرة مع الجزائر، ولتوريط المنطقة في مساندة للكيان الصهيوني
سادت الخلافات أعواماً ثلاثة العلاقات الفرنسية المغربية على خلفية قضية بيغاسوس، وحاول الطرفان رأب صدع تلك العلاقات، ولكنّها تصطدم في كلّ مرّة بشروط فرنسية يمكن وصفها بالابتزازية، تتعلّق حيناً بالمهاجرين المغاربة غير الشرعيين في فرنسا، وسبل إصدار تصاريحَ قنصليةٍ لإعادتهم إلى المغرب، وأحياناً أخرى، بملفّ شائكٍ يتّصل بتنقّل الأشخاص من خلال فرض رقابة مشدّدة عل منح التأشيرات، إلّا بنسبة قليلة جدّاً. وبالرغم من الإرادة كلّها، التي حاول المغاربة إظهارها من خلال تسهيل الاستثمار وفتح الباب واسعاً أمام السيّاح الفرنسيين، إلّا أن سياسة فرنسا بقيت صارمةً إزاء المغرب.
في الناحية المقابلة، لقيت الجزائر من فرنسا الصّرامة نفسها في الملفَّين المذكورَين (الهجرة غير الشّرعية والتأشيرات)، إضافة إلى ملفّ ثالث ثقيل بين البلدَين، هو ملفّ الذاكرة الذي تلاعبت به فرنسا، وكانت في كلّ مرّة تقدّم تنازلاً ليتّضح بعدها أنه مُجرَّد من أيّ عمق بالنّسبة للملفّ. أيّ لا تقدّم في مبدأ الثلاثية التي تطالب بها الجزائر: الاعتراف، الاعتذار، ثمّ الاعتراف. حتّى في ملفّ بروتوكولي، إلّا أنه ذو رمزية كبيرة بالنسبة إلى الجزائر، ملفّ جماجم المقاومين، تلاعبت به فرنسا، وفق “نيويورك تايمز”، فقدّمت جماجمَ غير تلك التي كانت الجزائر تطالب بها. وبالرغم من ذلك، وفي سبيل عدم تعطيل الملفّ، مرّ الاحتفال، وواصل الجزائريون التفاوض (على مضض) للحصول على تنازلات فرنسية، من دون فائدة، بل ليخرج ماكرون في لقاء مع شباب فرنسيين (منهم شباب من أصول جزائرية)، بحديث لم يكن رسمياً (نقلت صحيفة لوموند ما قيل فيه)، أنه لا وجودَ لأمّة جزائرية في التّاريخ، ولا تاريخَ للجزائر في النتيجة، إلا بمجيء المشروع الاستيطاني إليها في 1830، مهدّماً بذلك أسس الملفّ برمّته.
هناك ملفّ أثقل بالنسبة إلى الجزائر والمغرب، تلاعبت به فرنسا في العمق الاستراتيجي لهما، في منطقة الساحل، بتحديد شركاءَ غير القوّتَين المغاربيتَين، بزعم أنّ البلدَين لم يريدا لعب الدور الذي أرادت فرنسا لهما أن يلعباه، أي طرفَين تابعَين للإرادة والإدراك الفرنسي لمناطق نفوذها في القارّة وبمناولة مغاربية، كانت قد طلبتها في ملفّ الهجرة غير الشرعية. وهناك من قَبِل لعبَ الدور، لكن لم تقبل كل من الجزائر والمغرب لعب دور المناولة الأمنية تلك، لتنشئ فرنسا في خاصرة البلدَين (في الساحل) جيشاً من خمسة بلدان، لكنّها فشلت فشلاً ذريعاً، وثار الأفارقة، خاصّة في ثلاثة بلدان رئيسة في التحالف الساحلي – الفرنسي (الدفاعي/ الأمني)، وهي بوركينا فاسو ومالي والنيجر، من خلال انقلابات عسكرية متتابعة ومتزامنة تقريباً، ليتبيّن ألّا حركية براغماتية، ولا مخارج استراتيجية، من دون إرادة البلدَين المغاربيَّين، اللذين تريد فرنسا استبعادهما ليستمرّ التلاعب بمصالح المنطقة المغاربية وبعمقها الجيوسياسي في منطقة السّاحل.
وحتى عندما يزور ماكرون المغرب، فهي زيارة تأتي على خلفية خلافات كبيرة مع الجزائر، ولتوريط المنطقة في مساندة للكيان الصهيوني، إذ وضع ماكرون من على منبر البرلمان المغربي أسساً لشرعية الجرائم ضدّ الإنسانية التي يقترفها جيش الكيان في فلسطين ولبنان بقوله إن ذلك “دفاع عن النفس” من الكيان الصهيوني، ضارباً عُرْضَ الحائط بأنه موجود في بلد عربي، وإن كانت له علاقات مع الكيان، إلّا أن ثمّة جبهة شعبية نشطة في التظاهر وفي المطالبة بوقف الحرب، وفتح باب دخول المساعدات إلى فلسطين.
مقترح وضع ملفّ الصحراء الغربية جانباً، مع إعادة بعث المشروع المغاربي، أفضل خيار استراتيجي يخدم مصالح المغرب والجزائر وغيرهما في أفريقيا
ما الكلفة التي تدفعها المنطقة إزاء عدم إدراك أن فرنسا لا تقف إلى جانب المغرب أو الجزائر إلا لضرب مشروع كان يمكن للبلدَين أن يكونا قوّتَين إقليميتَين لا شيء في المنطقة يتمّ إلا بقرارهما وبوجودهما، من ملفّ ليبيا والهجرة غير الشرعية، وصولاً إلى منطقة الساحل؟ ذلك أن ثمّة علاقة عكسية بين تقدّم علاقة فرنسا مع أيّ من البلدَين والتباعد المغاربي على تجسيد البناء التكاملي المغاربي، وهو البناء الذي تخشى فرنسا أن يظهر إلى الوجود لأنه سيكون إعلاناً رسمياً لنهاية الطموحات الفرنسية كلّها في المتوسّط، في المنطقة المغاربية وفي شمال أفريقيا، ونحو الجنوب، في منطقة الساحل، بل ونحو أفريقيا أيضاً.
لنأخذ، إبرازاً لما تقدّم، خطّ أنبوب الغاز المقترح بين نيجيريا والمتوسّط أو الأطلسي، حيث تلعب فرنسا من خلال شركاتها الكُبرى (توتال) دوراً في تحريك لعبة الأنابيب، مرّة عبر المغرب وعديد من الدول الأفريقية، وأخرى عبر النيجر والجزائر، وصولاً إلى المتوسّط. ومنذ أيام، ظهر طرح جديد باقتراح مسار أنبوب يمرّ عبر ليبيا، مستبعداً في النتيجة الجزائر والمغرب من مشروع طاقوي كبير جدّاً، كان من الممكن لو كان هناك بناء تكاملي مغاربي حقيقي أن يكون في صالح المنطقة برمّتها، والهدف واضح، لا تجسيد للمشروع إلّا بإرادة فرنسية، إذ لا تريد باريس أن يكون أيٌّ من البلدَين المغاربيَّين الكبيرَين متحكّماً في شريان خطّ طاقوي استراتيجي نحو أوروبا، لأن باريس تعلم تمام العلم أن الخطّ المغربي سينتهي بمنح دور المموّن الأوروبي الرئيس لإسبانيا، والخطّ الجزائري سيعطي ذلك الدور لإيطاليا، التي ترتبط مع الجزائر بعلاقات استراتيجية، خاصّة في الملف الطاقوي.
بالنتيجة، لتلاعب فرنسا أكثر من مصلحة، أكثرها أهميةً منع أيّ باب يفتح نحو تسيّد مشروع مبادرة جزائرية – مغربية للعب دور قوّة إقليمية في شمال أفريقيا، في المتوسّط الغربي، ونحو الجنوب في الساحل والقارّة الأفريقية، كما لا تريد فرنسا أيَّ طموح مغاربي للعب دور موازن من دون إدراكها، ومعزّزاً احتمال التفرّد المغاربي بالقرار الاستراتيجي في المنافذ الاستراتيجية المذكورة.
لنصل، هنا، إلى المصالح المغاربية، التي تتعطّل كلّما تلاعبت فرنسا بالمنطقة، ذلك أن مقترح وضع ملفّ الصحراء الغربية جانباً، مع إعادة بعث المشروع المغاربي، هو أفضل خيار استراتيجي يخدم مصالح ليس المغرب والجزائر فقط، بل يخدم مصالح المناطق كلّها التي ذكرت أعلاه، ويخرجها من دائرة النفوذ الفرنسي. ولنأت إلى توضيح المسألة بمثال واقعي من خلال طرح سؤال يتعلّق بعدد فرص العمل التي تتعطّل في البلدين الأكبر في المنطقة، من جرّاء تعطّل المشروع المغاربي، وهما بأمسّ الحاجة إليه بسبب توسُّع سوق العمل وإشكالية البطالة (إضراب طلبة الطبّ في البلدَين نموذجاً)، وما تتبعهما من تداعيات (الهجرة غير الشّرعية مثلاً): ما عددها حقيقة (أي فرص العمل تلك)، وما كلفة عدم تجسيد البناء المغاربي بالتالي؟
تلك فِكَر، همسات بالأحرى في آذان صانعي القرارات في البلدَين، أن فرنسا لا تريد إلّا مزيداً من التفكيك لمصالح المنطقة، وما يدلّل على ذلك أن الإعلام الفرنسي لم يجد إشكاليةً إلا ضمّ الفكاهي المغربي المحترم ياسين بلعطار إلى قائمة الوفد المرافق للرئيس ماكرون في زيارته المغرب، بزعم أنه نادى بضرورة عدم مشاركة الرئيس ماكرون في مسيرة رسمية فرنسية ضدّ معاداة الساميّة، لأنّها مسيرة تمسّ بانسجام المجتمع الفرنسي.
لا مصلحة لنا جميعاً في مجاراة فرنسا في تلاعبها بالمنطقة، لأنها لا تعمل إلّا من أجل تعظيم مصالحها
أدهى ممّا تقدّم، يجري الحديث في القنوات الإخبارية الفرنسية عن زيارة الرئيس الفرنسي المغرب على خلفية تصريحاته وقراراته بشأن الصّحراء الغربية، لتتحدّث علانيةً عن غياب أيّ مصلحة لفرنسا في استعداء الجزائر من خلال خطوة الاعتراف بحلّ الحكم الذاتي في ملفّ الصحراء الغربية، بل جرى الحديث (في تلك القنوات) لزج النُخْبَة من أصول مغاربية (مغربية وجزائرية على وجه الخصوص)، بقول بعض ضيوف تلك الإطلالات التلفزيونية إن هناك توجّهاً متزايداً نحو الانعزالية، ضبابية في الموقف من معاداة السامية، إضافةً إلى اتهامات بالتقارب مع الإسلاميين أو مع الجمعيات الإسلامية، التي حلّت في عهد وزير الداخلية السابق جيرالد موسى دارمانان، ونموذجها اللاعب بن زيمة (تغريدة مناصرة لأهل غزّة تتحوّل تهجّماً بل دعوة لتجريده من الجنسية الفرنسية)، من قبل، وياسين بلعطار الآن، لتتضّح المؤشّرات إلى أن لا مصلحة لنا جميعاً في مجاراة فرنسا في تلاعبها بالمنطقة، لأنها لا تعمل إلّا من أجل تعظيم مصالحها وأنها ما زالت تنظر إلينا جميعاً أننا في حاجة إليها، بالمنظور الاستراتيجي بصفة خاصّة.
تلك، كما تقدّم، همسة في آذان النُخْبَة المغاربية في الجزائر والمغرب، إن الوقت حان لإعادة بعث مشروع تبوّء المنطقة ببلديها القاطرتَين، دور القوّة الإقليمية بعيداً، بصفة خاصّة، عن الأيادي الخارجية في جنوب أوروبا، لإبعادنا عن ذلك المشروع، ولتكن الخطوة الأولى بالإعلان عن وضع نقطة الخلاف الكبرى، الصحراء الغربية، بعيداً من دائرة الخلافات، وقد سبق تجريب ذلك، وإن لم يُعمل به… فهل من مصغٍ؟
المصدر: العربي الجديد