ساهم القانون الحديث في إطار تطور الرأسماليات الغربية في تطويرها، وضبط صراعاتها ومنافساتها السياسية والطبقية، والأهم في إنماء وتبلور مفهوم القومية، والأمة الواحدة، من خلال المساهمة الفاعلة في التغير الاجتماعى، وساعد مع حركة التصنيع في الارتقاء بمستويات الوعي الاجتماعي، والسياسي وإرساء التقاليد السياسية، وفى تأصيل ودعم المؤسسات السياسية، والدستورية في النظم السياسية الأوروبية اللاتينية، والانجلوسكسونية. من هنا شكلت الحداثة القانونية، أحد أبرز معالم، وقواعد دولة القانون والحق.
من هنا تبدو الأهمية الفائقة للنظم القانونية الحديثة في مجالى القانون العام، والقانون الخاص، في المساهمة الفعالة في تشكيل الثقافة السياسية، وأيضا في تبلور مفهوم الاندماج القومى في اطار الدولة/ الأمة، وفى مجال الحريات العامة والفردية، والتمايز الوظيفى بين السلطات الثلاث واستقلالهم مع التعاون فيما بينهم سواء في النظم البرلمانية، والرئاسية، وشبه الرئاسية!
من هنا ساهمت الثقافة القانونية الحداثية في تحفيز وتطوير الوعى السياسى والاجتماعى الجماعى، والفردى بالحريات، وأهمية دور الفرد في المجال العام لا سيما السياسى.
لا شك أن الهندسات القانونية الحداثية لعبت دورًا هاما في سياسات الاندماج الداخلى، مع تطورات الرأسمالية، والثورات الصناعية المتعاقبة، والمبادئ والقواعد الدستورية والقانونية للمساواة والمواطنة وأجيالها المتعاقبة، وعدم التمييز بين المواطنين على نحو أدى إلى تحفيز المبادرات الفردية، وتنظيم التنافس والأهم الصراعات الاجتماعية، وضبطها في اطار أوضاع وتوازنات القوة الطبقية والاجتماعية في كل مجتمع أوروبى.
الأبعاد الطبقية للقانون، والسعى لإصلاحها جاءت مع تبلور الطبقات العاملة، والنقابات العمالية، والمطالبات بالضمانات الاجتماعية، وبعض الاتجاهات الإصلاحية مع بسمارك في ألمانيا، ثم دور الأحزاب العمالية واليسارية المطالبة والداعمة لهذه الحقوق . لا شك أن هذه الإصلاحات ونظم الضمان الاجتماعى، ساهمت في التخفيف الجزئى من حدة الصراعات الطبقية، بل وتطور الرأسماليات الأوروبية، وهو ما كرس وطور الاندماج الاجتماعى، مع الثقافة السياسية الحداثية، وتطور التعليم، والصحافة ووسائل الأعلام وضمانات حرية التعبير والبحث، علي نحو ساهم في تطور الثقافات الأوروبية، والغربية العالمة – الفلسفية وفي مجال العلوم الإنسانية – والشعبية . هذا الموروث الحداثى القانوني، والسياسى، جزءا من بعضه، أنتقل مع الكولونيالية البريطانية والفرنسية، والإيطالية إلي المستعمرات أثناء مراحل الاحتلال الأوروبي في بعض التنظيم الادارى للمستعمرات العربية في المشرق والمغرب مع الاستثناء التاريخى المصرى.
المشكلة الأساسية أن غالب المجتمعات العربية الانقسامية لم يكن تطورها الاجتماعى والاقتصادي والثقافى، يحمل معه إمكانات التكامل الوطنى الداخلي ، ولم يكن مفهوم الوطنية مع أباء الاستقلال، وحركات التحرر الوطنى، قد تبلور موضوعيا وتاريخيًا، وخاصة قبل وما بعد اتفاقية سايكس/بيكو.- مع الاستثناء المصرى والمغربي-، ومن ثم كان يسودها بعض النظم الإدارية الأوروبية، وبعض الأعراف والتقاليد، وأيضا بعضُ من الموروث الفقهى لنظام الشريعة الإسلامية، وخاصة في سردياتها في الثقافات الشعبية العربية حول الإسلام، ودعاته، وخاصة في المناطق الريفية، والبدوية واللجوء إلي بعضها في تنظيم العلاقات الاجتماعية في المواريث وعقود البيع والشراء والتجارة الشفاهية والمكتوبة والزواج والطلاق والأنساب ، وغيرها .
من الأهمية بمكان ملاحظة أن بعض أباء الاستقلال والصراعات الوطنية قد تأثرت على نحو جزئى ببعض الأفكار المحدودة اليسارية الطابع، التي طرحتها بعض الجماعات الماركسية سياسيًا قبل وبعد التحرر من الاستعمار الغربي، حول القانون والدولة، إلا أن هذه الأفكار كانت تتسم بالجزئية والتبسيط والعمومية الشديدة، والغموض في إدراكها وتمثلها، وكانت جزءا من ثقافة الشعارات السائدة، ومن ثم لم تغادر هذه الدائرة الشعاراتية لتغدو جزءًا من الثقافة القانونية لدولة ما بعد الاستقلال الوطنى. مرجع ذلك الارتباط بين هذه الأفكار والفلسفة الماركسية، وأن التنظير القانوني السوفيتى، وفى الدول الشيوعية لم يكن على ذات العمق التاريخى والفلسفى في نظرية هيجل، والفلسفات الألمانية، والفرنسية والإيطالية .
من الشيق ملاحظة أن فلسفة القانون هي فلسفة الفلسفة -وفق الفقيه المصرى البارز المرحوم ثروت أنيس الأسيوطى-، ومن ثم لم تتطور فلسفة القانون في الدول العربية ما بعد الكولونيالية لأن الجماعة القانونية والقضائية كان تكوينها القانوني أوروبى ومهجن بالثقافة القانونية الإسلامية – الفقه والسرديات الدينية التاريخية وتأويلاتها – ، وفى ذات السياق التاريخى اتسم الفقه القانوني السائد آنذاك بالواقعية القانونية، والارتباط بالواقع الاقتصادي والاجتماعى ، وتفكك التركيبات الاجتماعية الانقسامية –الدينية والمذهبية والطائفية والعشائرية والقبلية والعرقية والمناطقية -، ومن ثم كانت الواقعية القانونية الذرائعية هي السائدة داخل السلطات السياسية الحاكمة والجماعات القانونية، وسلطة التشريع.
أدت الثقافة القانونية إلى بلورة مفهومى الوطنية، والدولة علي الرغم من هشاشتها التاريخية قبل وبعد الكولونيالية.
الأخطر أن سياسة التشريع الذرائعية اعتمدت على تطورات إدراك النخبة السياسية الحاكمة -وأجيالها المتعددة- لمفهوم المصالح الوطنية والاجتماعية والاقتصادية والدولتيه الجديرة بالحماية القانونية، وكانت غالبا مندمجة مع مصالح النخبة السياسية، وقواعدها الاجتماعية. من ثم إنحاز المشرع والقانون لهذه المصالح في الغالب، وإيلاءه عناية محدودة بمصالح الإغلبيات الشعبية، مع الاستثناء النسبى في مصر الناصرية، والجزائر في عهد هواري بومدين وتونس البورقيبية في مرحلة حكومة رئيس الوزراء بن صالح، وسوريا والعراق إلى حد ما وتغير مفهوم المصالح الجديرة بالحماية القانونية مع مصر الساداتية، وخاصة بعد سياسة الانفتاح، والتحول نحو الرأسمالية فيما بعد في عصر مبارك وما بعد انتفاضة يناير 2010 المجهضة .
من هنا لم تكن هناك تصورات فلسفية وسياسية متبلورة حول سياسة التشريع في هذه البلدان، وطبيعة المصالح الوطنية الأساسية، أوالعارضة للسلطة السياسية الحاكمة في كل بلد عربى، وغالبا ما اتسمت بالانتقائية والتحيز الاجتماعى، والعرقى –السودان ومصالح قبائل الوسط النيلي العربية بعد الاستقلال- والديني والمذهبى -دول الخليج العربى، والعراق على سبيل المثال- .. إلخ!
من هنا رغم مساهمة الثقافة القانونية الحدثية في بلورة مفهوم الوطنية، والانتماء، والدولة، والاندماج الوطنى، إلا أن سياسة التشريع الانتقائية والمتحيزة اجتماعيا، أدت إلى استمرارية عدم تشكل هذه المفاهيم في الوعى الاجتماعى الجمعى للمواطنين، والقواعد الاجتماعية الشعبية. والأخطر تمدد واتسع مفهوم الأمن القومي ، ومصادر تهديده وتأثير ذلك علي قوانين العقوبات والإجراءات الجنائية العربية ، واتساع مجالات التجريم والعقاب لأسباب سياسية محضة !
من الملاحظ أيضا هيمنة بعض اللامبالاة بأهمية الثقافة القانونية الحداثية، من النخب الحاكمة، وعدم إدماج بعضها في عمومياتها، كجزء من نظام التنشئة التعليمية ومناهجها المقررة، ومن الثقافة السياسية الرسمية، ومن ثم ادي ذلك إلي شيوع القيم المضادة لقانون الدولة، وسط الغالبية العظمى من “المواطنين”، لا سيما الجماهير الشعبية الغفيرة، ولجوء غالبهم الى أشكال من السلوك الاجتماعى المضاد لقوانين الدولة، من خلال قانون القوة، والمكانة والنفور، والرشي والفساد الإداري، في غالب المجتمعات العربية، على نحو أثر بقوة على فاعلية قانون الدولة فى الاندماج الوطنى، وهى مشاكل لا تزال شائعة وتتفاقم عربيا.
المصدر: الأهرام