قرر الرئيس الأمريكي جو بايدن عدم الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، وقد يكون قراره هذا قد جاء بضغط من الدولة العميقة، التي ترى في عودة مفترضة للرئيس السابق دونالد ترامب بداية شرخ عميق سيعصف بالولايات المتحدة مجتمعا ومؤسسات، في وقت تتقدم فيه الصين بنسج خريطة جيوسياسية لعالم جديد قد تصبح زعيمته خلال العقود المقبلة.
ويشكل الرئيس بايدن حالة نادرة في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية، إذ يعتبر أول رئيس ينسحب من سباق الرئاسة، ويكتفي بولاية واحدة بينما آخرون لم ينجحوا في الفوز بولاية ثانية مثل حالة الديمقراطي جيمي كارتر والجمهوري جورج بوش الأب، بينما آخرون جرى اغتيالهم مثل حالة جون كينيدي. ويمكن العثور على حالة مشابهة في الغرب وهي للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند الذي رفض الترشح سنة 2017 إدراكا منه بالهزيمة أمام كل من الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون وزعيمة اليمين المتطرف مارين لوبين.
ومنذ السنة الماضية، وبعدما بدأ بايدن يفقد التركيز الفكري وتصدر عنه تصريحات غير منطقية، تعالت أصوات وسط الحزب الديمقراطي، بضرورة عدم ترشح الرئيس الحالي لولاية ثانية، وتعاظم هذا الشعور والإحساس بعد المناظرة التي جمعت بينه وبين الرئيس السابق دونالد ترامب. وكانت جريدة «نيويورك تايمز» التي تمثل جوهر الدولة العميقة في الولايات المتحدة، قد طلبت من بايدن في افتتاحية قاسية لها يوم 28 يونيو/حزيران الماضي بأن أحسن خدمة سيقدمها للبلاد هو انسحابه من السباق الرئاسي في مواجهة ترامب. الجريدة نفسها عادت في افتتاحية لها يوم 21 يوليو/تموز الجاري تشيد بقرار بايدن وتقول، إنه يخدم مستقبل الولايات المتحدة، لأنه قد يمنع المرشح الجمهوري دونالد ترامب من العودة إلى البيت الأبيض، ووصفت ترامب بـ»المجرم الذي ينتهك الدستور الأمريكي. لم ينسحب بايدن طوعا، فقد تعرض لضغوطات كبيرة قادها بالأساس الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، والرئيسة السابقة لمجلس النواب نانسي بيلوسي، وهي ضغوطات تتماشى ورؤية الدولة العميقة «الإستبلشمنت» في الولايات المتحدة، التي لا ترغب في رؤية ترامب في البيت الأبيض. وكانت الدولة العميقة التي من ضمن ركائزها الرئيسية المؤسسة العسكرية، قد أرسلت خطابا واضحا في الانتخابات الرئاسية السابقة بعدم رضاها على ترامب، لأنه قد يقود البلاد إلى شرخ لم تشهده منذ الحرب الأهلية في ستينيات القرن التاسع عشر. من ضمن أخطر قرارات الدولة العميقة الأمريكية هو ما حدث بعد مقتل الأمريكي جورج فلويد في مينابولس في مايو/أيار 2020، حيث أراد ترامب اللجوء إلى الجيش للسيطرة على احتجاجات الشارع ضد موجة العنصرية، ورفضت القيادة العسكرية الطلب. أمر قائد القوات الأمريكية وقتها مايك ميلي من الجيش رفض أوامر الرئيس. وكتب وقتها الجنرال المتقاعد جيمس ماتيس، الذي شغل منصب وزير الدفاع في السنة الأولى من رئاسة ترامب، أن الأخير يريد تفرقة الشعب الأمريكي، مستعملا تقنيات النازية. وكان هذا أول تمرد حقيقي للجيش ضد الرئيس من الحرب الأهلية. وكانت مجلة «ذي أتلانتيك» الرصينة قد خصصت غلافها نهاية سبتمبر/أيلول الماضي للجنرال مارك ميلي بمناسبة تقاعده ووصفته بـ»الوطني» الذي أنقذ الولايات المتحدة من تهور قرارات ترامب.
على صفحات «القدس العربي»، نشرت يوم 15 يونيو/حزيران 2020 مقالا عنوانه «الجيش يحسم هزيمة ترامب دون تزوير الانتخابات»، مستعرضا الأسباب، وبالفعل خسر ترامب الانتخابات أمام جو بايدن. الأسباب نفسها ما زالت قائمة، وقد تفاقمت بسبب دور ترامب في تأييد العصيان واقتحام الكونغرس الأمريكي خلال يناير/كانون الثاني 2021، وهي التي ستحول دون عودة ترامب. ومن أبرزها:
في المقام الأول، تعتبر الدولة العميقة الأمريكية ترامب خطرا على مستقبل البلاد، لأنه يتبنى خطابا عنصريا، في وقت يشهد المجتمع الأمريكي تحولات إثنية كبيرة بحكم ارتفاع نسبة الآسيويين واللاتينيين.
في المقام الثاني، يتبنى سياسة الانعزال عن الاتحاد الأوروبي، وتقليل دور واشنطن في الحلف الأطلسي، ما يهدد وحدة الغرب في وقت تتعاظم فيه قوة الصين، التي تمنع أي شرخ في مجتمعها بالحديد والنار، كما فعلت مع مسلمي الإيغور.
في المقام الثالث، يتساهل مع موسكو ويرغب في إنهاء الحرب الأوكرانية على حساب بقاء شرق هذا البلد «إقليم دونيتسك ولوغانسك» ضمن وحدة أراضي روسيا.
في المقام الرابع، يريد الانتقام من الجيش الأمريكي بإدخال إصلاحات تساعده على السيطرة على الحرس الوطني لتوظيفه في مواجهة الاحتجاجات الداخلية ويخلق وضعا جديدا في هذا البلاد. وصرح ترامب بهذه الإصلاحات خلال يوليو 2022، واعتبرته جريدة «ديفانس نيوز» العسكرية الأمريكية من القرارات الخطيرة على المؤسسة العسكرية، إذا فاز ترامب في انتخابات 2024 (القدس العربي 31 يوليو 2022: إذا فاز ترامب بالانتخابات…ترامب يريد الانتقام من الجيش الأمريكي بوضع الحرس الوطني تحت قيادته).
في المقام الخامس، أحيا ترامب الوحش الأبيض، ويتعلق الأمر بالمواطنين البيض الذين يعتقدون أن الولايات المتحدة تتم سرقتها بسبب التشجيع على الهجرة لتغيير التركيبة السكانية الأمريكية. ويؤمن البيض بالكثير من نظريات «الاستبدال الكبير» التي تعتبر عقيدة جديدة لليمين القومي والشعبوي المتطرف في الغرب، لهذا يغازلهم ترامب بالتشدد في الهجرة وفي منح الجنسية. ووعيا بخطورة هذا الملف، تكتب «نيويورك تايمز» في افتتاحية الأحد الماضي أن «المرشح الديمقراطي المقبل يجب أن يعالج بعمق ملف الهجرة غير القانونية»، وذلك في تلميح إلى إرضاء البيض لتقليل التعاطف مع ترامب.
تجمع المرشح الجمهوري ترامب علاقات متشنجة مع الدولة العميقة باستخباراتها وجيشها ودبلوماسيتها، ولن تسمح له بالفوز من خلال توظيف طرق ذكية للتقليل من حظوظه، مثل وقوفها غير المباشر وراء المرشح الديمقراطي المقبل. وإذا فاز ترامب، فوقتها سيكون أول رئيس بصلاحيات محدودة، كما وقع خلال الستة أشهر الأخيرة من رئاسته عندما قاطعته الاستخبارات والجيش وباقي المؤسسات الحساسة. في بعض المناسبات، يغيب الحديث عن دور الدولة العميقة بشأن تدخلها في لحظات معينة، دون لفت الكثير من الأضواء أو تبقى سرية وتنكشف مع مرور الوقت. تمرد الجيش على ترامب سنة 2020 أدى إلى منع عودته للبيت الأبيض، وإجبار جو بايدن على عدم الترشح يدخل في هذا الشأن. ولفهم أكبر للدولة العميقة في الغرب في منع حدوث تغييرات، نختتم بدور مثير لها عندما قررت تنفيذ عملية «غلاديو»، وهي تنفيذ عمليات إرهابية إبان الحرب الباردة في السبعينيات والثمانينيات أدت إلى مقتل العشرات، وألصقتها باليسار الأوروبي، لتشويه الأحزاب الشيوعية ومنعها من الوصول للسلطة. وكان تبرير القائمين على هذه العملية «يمكن التضحية بمئات الأشخاص للحفاظ على الغرب بمئات ملايينه من الناس من التفسخ والانهيار إذا وصلت الشيوعية إلى الحكم في روما وباريس وبروكسل». اتهم البرلمان الأوروبي سنة 1990 الاستخبارات العسكرية الغربية وعلى رأسها العسكرية الأمريكية بالتورط في إرهاب «غلاديو»، ولكن التحقيق في «غلاديو» شمل فقط إيطاليا وبلجيكا وسويسرا وبشكل محدود، وتذرعت باقي الدول بالمصلحة العليا للأمن القومي.
وعليه، كل الطرق تؤدي إلى منع ترامب من العودة للبيت الأبيض حفاظا على وحدة المجتمع الأمريكي ووحدة الغرب، إنها قضية الأمن القومي الذي تتولاه الدولة العميقة.
كاتب مغربي
المصدر: القدس العربي