لم تحظ أشكال الدعم المعنوي، ولا مضمون المساندة الذي يؤلف معها موقفاً ثابتاً له تاريخه المؤكّد في الاهتمام والعناية بالقضية الفلسطينية في المغرب منذ أزمان، بما تستحقه من رصدٍ وتأويل، أو تعميم واعتبار، يكون في الاستحقاق دوماً للتعبير عن الامتنان الذاتي النضالي الذي يعفي الشاعر به، حين يؤكّد له صدقية مشاركته أو وجاهة قوله أو معاناة انشغاله، من التبعات الأخرى المرتبطة، في موقف الدعم وفي مضمون المساندة نفسها، بما يمكن تسميته المسؤولية النضالية، أو ما هو في مقامها. ومع ضعف الاهتمام الإعلامي، ومحدودية الأخبار المتداولة عن ذلك، فضلاً عن أن الاهتمامات المختلفة والمتناقضة التي “تشغل” بال العاملين في الإعلام ووسائط التواصل والشبكات الاجتماعية لا تولي للقضايا النضالية شيئاً كثيراً. وإذا كان، فلا أكثر من الحيز الضيق، وأقلّ من ذلك على مستوى المتابعة الجادّة التي تفيد في الإخبار والإعلام، أو في التحليل والتقدير. ومما يلاحظ أمام هذا الخصاص أن الوضع هذا يخلّف لدى الفاعلين والمشاركين، بطريقة غير مباشرة، أو غير معلنةٍ لا تقال، حالة من التذمّر الذي يقارب، في الشعور، حالة أخرى من اليأس، أو الغضب، حسب التقدير المستخلص من التعامل الإعلامي الملحوظ. ولكن الجانب الأكثر إثارة ما يخلفه ذلك، في بعض الأحيان، من إحساسٍ بعدم الجدوى الذي قد يُتَوَّجُ بالفتور ثم ينتهي بالانفضاض الذي لا علاج له في جميع الحركات الاجتماعية الهادفة بسبب تغيّر الأسباب والظروف.
لا أريد من هذا إلا الإشارة إلى أنّ تجارب الدعم وحركاته ومواقفه التي يقوم بها “المناضل المعارض”، في علاقة بأفكاره وتصوّراته الإيديولوجية أيضا، وهو يمارسها بحميّة زائدة أو باعتدالٍ مقصود، لا يجب أن تكون بِمِقْدَارِ، أو بِحَجْمِ، أو بِصَدَارَةِ ما يُنشر عنها أو يقال، ولا بالعدد الذي يُكَوِّنُها، ولا بالمدّة التي قد تتواصل فيها. فذلك كله هو من اختصاص وعمل، أو تصورات أخرى، تقوم، أو لا تقوم، بتقدير أهميتها وتحليل السياق الذي يبرّر نشرها، وكذا بالأهداف المفترضة التي يمكن توخّيها، صراحة أو ضمنا، من القرار الموجب لها. كما لا علاقة لها بذلك، سواء تعلق الأمر بالنضال المساند وبتجارب التضامن، أو بأسلوب المعارضة السياسية، إلا من زاوية ضيقة، أراها في ارتباطٍ محسوبٍ ومدرك بالمجال الذي تصدُر عنه حصراً.
ومن الصحيح أن الإعلام قد يكون من روافد النضال العام في سبيل القضايا العادلة، وخصوصاً عندما يُعْلِمُ، في مطلق الظروف، بأهمية النضال وبشعاراته وأفكاره وبقوته إن كانت له. غير أنه إن لم يقم بذلك، لاعتبارٍ من الاعتبارات التي قد تمنعه، بما في ذلك قوة المنافسة التي قد تتولّد عن عمل الأطراف الفاعلة فيه أو تناقضاتهم، فإنه، والحالة هذه، لا يُلام لأن الظرفية، بكل ما تحمله من معانٍ وتقديرات ومصالح وأهداف، قد لا تكون ملائمة، أو أن شروط العملية غير متوفرة لأسبابٍ تقنية يتعطّل بها كل شيء.
بناءً على هذا، يمكن القول إن التبرّم من عدم الاهتمام الإعلامي بحرب الإبادة التي يخوضها الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين، وخصوصا عندما يقوم موقف التبرّم هذا بجرد عدد التظاهرات، أو الوقفات الاحتجاجية، أو إحصاء عدد القتلى، لإدانة أسلوب التقصير أو الإهمال الممارس في حق المساندة والدعم، لا معنى له إلا أن يكون تعييراً نضالياً، بل وأراه مِنَّةً (يعتبرها العرب استكثاراً للإحسان والفخر به إلى درجة إفساده). وظنّي أنه ليس للمناصر أو المساند أن يقيس درجة مناصرته، أو مساندته، بما يُقال ويُنشر عن ذلك، ولأن التضامن مع القضية الفلسطينية، في هذه الحالة، ليس من أجل شهادة إنسانية تعطى بعد التظاهرة الاحتجاجية، أو العملية النضالية المعينة، ولأن المعروف لكل المتضامنين الأوفياء، وأصحاب القيم الإنسانية الفضلى، أن الارتباط بقضيةٍ ما ومناصرة نضالها العادل هو من باب مناصرة التحرّر والكفاح الإنساني، حيثما كان له هذا المضمون في التطوّر العام للإنسانية، لا يهمّ في ذلك أيّ تحديد جغرافي مسبق، ولا هوية مقموعة، ولا شعور ديني قبلي، ولا مستحقّات يمكن استيفاؤها في الوقت المطلوب.
والأهم من هذا وذلك، في ما أرى، أن التذمّر ليس فيه أي شيء، أو فيه القليل فقط، من الاحتجاج الضروري على مواقف السلطة الحاكمة وأسلوبها في محاربة المساندة والدعم. لأن هذه المحاربة غالباً ما تأخذ في علاقة بالقضية الفلسطينية، للحساسية المرتبطة بحكم الوازع الديني أو القومي، أكثر من مظهر قمعي وعدواني يُراد بهما تحطيم الشعور المعنوي بالمساندة والمناصرة… فوق المنع الذي يمكن أن يجهض المساندة أو الدعم.
ومن هذه الزاوية، إذا كان من المعروف لدى المتتّبع تطور الأحداث واحتدامها، ولو من دون أدنى اهتمام بما تدعو إليه المقارنة أحيانا من مفارقات، أن تجارب التضامن التي خاضتها هيئات مغربية غير حكومية، منذ يوم العملية المتقنة التي قامت بها حركة حماس ضد الكيان الصهيوني في صبيحة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تجاوزت، في مدى ثمانية أشهر، عتبة المائة وفي أكثر من 40 مدينة على امتداد التراب الوطني، أو أنها كانت من القوة، في بعض الأحيان، والاتساع، في أحيان أخرى، محطّ افتخار قد نُزَايِدُ به على هيئات مغاربية أو عربية غير حكومية أخرى، فالعدد أكان بالعشرات أم بالمئات لا قيمة له إذا لم يكن له من أثرٍ معين، صغيراً أم كبيراً، في حركة المقاومة نفسها، ولو على مستوىً معين من مستوياتها، وإلا عُدَّ، في المجمل، مجرّد تنفيس يُراد به تبرير عجز معيّن يُكَبِّل صاحبه أو يُصْرِفُه عن القضية برمتها.
أريد التعبير، من خلال هذا، عن فكرة مفادها أن دعم القضية الفلسطينية ومساندة نضالها التحرّري، في المغرب، أو في بلدان مغاربية أخرى، ليس، في تقديري، إلا ذلك الوعي المتواصل في الزمن، بصرف النظر عن مراحل احتداده أو فتوره، بأهمية المقاومة (الفلسطينية) التي يجب أن تصبح مثالاً وأسلوباً لغيرها من المقاومات ضد الاحتلال أو ضد الاستبداد. ولا أقول هذا إلا لأن ما يُراد بالتظاهرات وأشكال الاحتجاج الأخرى التي لا يُحْصَى عدَدُها وتثار حمية المتذمر من تجاهلها وعدم الإعلام بها، هو في المغرب على سبيل المثال، للمطالبة بإسقاط التطبيع، فيكون موجّها في إطار المعارضة السياسية، المبنية على نقد الاختيارات العامة المنتهجة، وطبيعة السلطة غير الديمقراطية، ضد النظام الحاكم، لا لدعم مقاومة “حماس” والقضية الفلسطينية كما هو المطلوب النضالي… رغم بعض الترابط الموجود بينهما، وخصوصاً عندما ندرك، بيقين تام، أن فلسطينيين لا يرون في “التطبيع” شيئاً مرفوضاً تماماً، وأن قيام الدولة الفلسطينية التي يمانع الكيان الصهيوني في الاعتراف بوجوبها هي الشرط الواضح لكي يصبح “التطبيع”، فضلاً عن الاعتراف بالحقوق الشرعية التاريخية، سلاماً دائماً بين الفلسطينيين والإسرائيليين وفي المنطقة.
القضية الفلسطينية سياقٌ سياسيٌّ بالنظر إلى عدالتها وللأبعاد التاريخية المرتبطة بوجودها ونضالها المقاوم منذ عقود، أما إسقاط التطبيع فهو موقف سياسي معارض تعلنه، في مغرب اليوم، قوى يسارية وإسلاموية، انطلاقا من اعتبارين: أولهما يستند إلى الموقف الايديولوجي المبني على التصور النظري (الثوري) ذي الطبيعة الماركسية اللينينية، كما يعلنه أصحابه، من دون خوف، للشرعية التي يتمتّعون بها، وهو المرتبط أيضا بالتحليل الطبقي ودور “الحزب الثوري” في التغيير الشامل الذي لن يكون، في هذا الطرح، إلا بالثورة على الأوضاع القائمة. معنى ذلك أن المعارضة السياسية المرحلية هي تكتيك يمارَس، إن مورس من دون قمع، في أجواء من الشرعية المسنونة بديلاً للديمقراطية المطلوبة.
أما الثاني فهو الذي تعلنه في العموم قوى إسلاموية من الحزبين المهيكلين، العدالة والتنمية، وجمعية العدل والإحسان، أساساً. الفارق الصغير، على هذا المستوى، أن واحداً من زعماء “العدالة والتنمية” هو الذي أجبره النظام، وربما بقوة الإحراج، على توقيع “التطبيع” يوم 20 ديسمبر/ كانون الثاني 2020 إلى جانب ممثل الكيان الصهيوني. ولم يسبق لجماعة العدل والإحسان، وهذا محسوب على الفارق الصغير، أن حازت شرعية العمل السياسي، ولا رغبت في الوصول إلى السلطة المكفولة، حسب الظروف، بالتسويات الي يضمنها القبول بالعمل في “المجال الشرعي”. حزبان يسعيان، كل من موقعه واعتمادا على مواقفه، إلى الإسهام الحركي الفعلي في الظرفية الملتهبة والسياق الذي حوّلته “حماس” إلى مناخ يغلي بالتعبئة الأيديولوجية والسياسية والشعورية كذلك ضد النظام الحاكم “المطبّع” وضد إسرائيل نفسها (المطبّع معها). وبالخصوص حين يُؤول عدوانها الشامل على أنه الإبادة بمساندة المُطَبِّعِين. الباعث، وهذا هو التأويل الديني لما تعنيه القضية الفلسطينية للمسلم المعارض في وطن أصبح فيه التطبيع الوجه الآخر لدعم الكيان الصهيوني في وحشيّته ضد الفلسطينيين.
والخلاصة التي أود الوصول إليها أن مظاهر الاحتجاج والتظاهر (وعمادها في حالات أخرى ما تسمّى، بديلاً للأحزاب القائمة، التنسيقيات) قد يكون المقصود بها، من حيث الشعور القومي، دعم المقاومة الفلسطينية في وجه العدو الصهيوني الغاصب، إلا أنها، في الوقت نفسه، الصيغة الحقيقية والسلمية، في الوقت الحالي، للمعارضة السياسية الرامية إلى إسقاط التطبيع من خلال مطالبة السلطة الحاكمة بذلك. طريقة ملتوية، قد تكون، لتجنّب الخوض في راهنيّة قضية الصحراء التي أصبحت محدّداً جوهرياً لكثير من العلاقات المحلية والإقليمية والدولية التي للمغرب في العالم.
المصدر: العربي الجديد