ما الذي يمكن أن تقدمه دمشق لأنقرة؟

علي تمي

في الآونة الأخيرة، عاد إلى الواجهة الحديث عن تقارب بين أنقرة ودمشق، مع تصريحات متبادلة بين الجانبين، ومحاولة إعادة العلاقات إلى سابق عهدها.

الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، تحدث هذه المرة خارج الصندوق موجهاً في آخر تصريح له رسائل سياسية مبطنة لدمشق، داعياً إلى إعادة العلاقات على أساس المصالح المشتركة، ولكنه استخدم كلمة “قد”، حيث قال بالحرف: “قد أدعو بشار الأسد لزيارة تركيا في أي وقت”. الرئيس التركي يعي جيداً ما يقوله، وترك البوابة الخلفية مفتوحة للتراجع.

هذا التصريح جاء رداً على تصريح بشار الأسد الذي أرسل بدوره إشارات إيجابية تجاه أنقرة وتغازل مع المواقف الأميركية، حول وجود اتصالات مع واشنطن، بحسب ما نقلته الصحافة الروسية.

بين هذا وذاك، يبدو أن هذا الطريق غير سالك ومحفوف بالمخاطر والانزلاقات. فأنقرة لديها اليوم علاقات استراتيجية مع قوى المعارضة السورية بمختلف انتماءاتها وتوجهاتها، وهناك اليوم أكثر من 70 ألف مقاتل تحت السلاح بالإضافة إلى وجود مقري الحكومة المؤقتة والائتلاف على أراضيها.

والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم بقوة هو: هل تستطيع أنقرة التضحية بهذه الورقة مقابل فتح علاقات مع نظام متهالك وزّع الجغرافية السورية بين الميليشيات والعصابات التي أتى بها إلى سوريا من كل حدب وصوب؟ الجواب بالطبع لا.

لماذا؟ لأن تركيا كدولة مهمة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقوقاز، وبحكم موقعها الجغرافي، محاطة اليوم بحزام عسكري أمني أميركي-روسي سواءً في المتوسط أو باليونان أو حتى داخل سوريا والعراق.

لهذا السبب، أنقرة لا تستطيع التضحية بأوراقها، وهي محاصرة عسكرياً، ولا شك أن وجود السوريين الحلفاء لها بكثافة قرب حدودها الجنوبية هو بمثابة صمام الأمان لأمنها القومي. بالإضافة إلى ذلك، تتجه سوريا نحو التقسيم، وهذا الأمر بات خارج إرادة الجميع بما فيها تركيا، والقوى الدولية تحاول فرض وقائع جديدة في المنطقة. بالتالي، إعادة أنقرة علاقاتها مع دمشق لن تُمكنها من النأي بنفسها عن هذا المخطط، بل ستزيد الطين بلة.

دمشق، بعد سنوات من الحرب والاستنزاف، وحقول النفط والغاز وأكثرية المعابر خارج سيطرتها، تحولت إلى دولة هشة مفلسة اقتصادياً، حيث حالة الركود والفوضى تسود المناطق الجنوبية، بالإضافة إلى العقوبات الاقتصادية الدولية وتحريك ملف الجرائم في فرنسا مؤخراً، ومدن بأكملها لا تزال مدمرة. وبالتالي، باتت تلفظ أنفاسها الأخيرة على الأقل على المستوى الاقتصادي، ومن هذا المنطلق فهي غير مؤهلة للدخول في صفقات سياسية مع الدول القوية وخاصة تركيا.

واشنطن ترفع “بطاقة صفراء” في وجه الجميع في سوريا

ومن الواضح أن هذه السيناريوهات على الأغلب تُطبخ في موسكو على نار هادئة، فجاء الموقف الأميركي ليحسم الأمر من خلال تصريح رسمي صدر عن وزارة الخارجية بأن الولايات المتحدة لا تفكر في سحب قواتها من سوريا، وليس في الوارد فتح علاقات مع دمشق، وأن التركيز سيكون على تنفيذ القرار 2254. من الواضح أن الرسالة الأميركية موجهة لجهود موسكو ولوضع عصا في عجلة تطور العلاقات إلى سابق عهدها بين أنقرة ودمشق.

ولا شك أن هناك استياء تركيا من مواقف واشنطن ودعمها لحزب العمال الكردستاني ومحاولة شرعنة هذا الحزب وتسويقه دولياً تحت اسم “قسد”. هذا الأمر بات واضحاً للعيان، ونوايا السياسة الأميركية ومن خلفها إسرائيل في سوريا، هي تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ ومحاولة خلط الأوراق لتعقيد الأزمة بشكل أوسع وأعمق.

هل ستسمح طهران ودول الخليج العربية لتركيا بالسيطرة على دمشق؟

لا شك أن طهران – رغم انشغالها بانتخاباتها ووضعها الداخلي، تراقب التصريحات الأخيرة الصادرة عن دمشق وأنقرة باهتمام ولم تعلق حتى الآن بانتظار تحول الأقوال إلى أفعال. بينما المملكة العربية السعودية دعت بشار الأسد إلى قمة الرياض، وبعدها إلى المنامة.

الهدف السعودي من التعامل مع الأسد ليس لأنه شخص قوي وشجاع انتصر في المعركة، بل لأن مشروع الشرق الأوسط الجديد يتدحرج شيئاً فشيئاً نحو التطبيق، ومعالمه باتت واضحة للجميع.

لهذا السبب، استدعت الرياض الأسد إلى قمة الرياض ومدت له السجاد الأحمر، ليس محبة به، بل لأنه مطلوب منه القيام بدور مكمل إلى جانب الرياض وأنقرة لأن المشروع في نهاية المطاف يستهدف الجميع دون استثناء.

ملف اللاجئين

هذا الملف بات اليوم يشكل عبئاً إضافياً على الأمن القومي التركي مع تزايد حدة التوترات والصراعات في المنطقة بأسرها والمشاحنات في الداخل. ومع وجود عدد كبير من اللاجئين السوريين في تركيا، تحاول أنقرة اليوم البحث عن مخارج لهذا الملف، ولو من خلال التعاون مع دمشق لإيجاد حلول مستدامة مع تقديم ضمانات لعودة اللاجئين بأمان دون التعرض لهم، بالمقابل يمكن لأنقرة أن تدعم برامج إعادة التأهيل والبنية التحتية في حلب ودمشق.

أنقرة اليوم تمتلك أقوى ورقة داخل الساحة السورية، بينما موسكو تحاول سحب هذه الورقة منها بذكاء أو على الأقل إضعافها من خلال إعادة فتح العلاقات مع دمشق. فرضية التخلي عن هذه الورقة تعني أنها ستفاوض الروس والأميركان في مرحلة من المراحل على مدنها الجنوبية أو على الدردنيل والبوسفور في نهاية المطاف.

قبل ذلك، استدرجت واشنطن روسيا إلى المستنقع الأوكراني لاستنزافها على المدى البعيد، وحاولت مراراً وتكراراً جر تركيا إلى هذه الساحة لكن دون جدوى. بينما تحاول مع ألمانيا لزجها في الساحة الأوكرانية.

فواشنطن اليوم لديها استراتيجية هي إضعاف أوروبا وإغراقها بقضايا اللاجئين وحرب أوكرانيا، وجر تركيا ودول الخليج إلى مستنقع غزة لاستنزاف الجميع على المدى البعيد.

الاعتقاد السائد هو أن أنقرة تمارس التكتيك مع دمشق، وفرضية إعادة العلاقات الدبلوماسية معها بشكل كامل أمر مستبعد تماماً. وعلى المعارضة السورية بمختلف انتماءاتها أن تتحلى بالحكمة وبُعد النظر وعدم التعامل بردود أفعال، وهناك شبه دولة اليوم في شرق الفرات تمتلك جميع مقومات البناء والاستمرارية. فتغيير نظام الحكم في دمشق إن لم يتحقق اليوم، سيكون غداً بطبيعة الحال، ومشروع تقسيم سوريا بمجرد تثبيته لن يعود كما كان.

والأخطر من كل هذا هو أن بشار الأسد بات جزءاً من هذا المشروع سواءً في الجنوب أو شرق الفرات. بالتالي، المنطقة تتجه شيئاً فشيئاً نحو الفوضى الخلاقة، وكل دولة تحاول النأي بنفسها عن هذا المخطط والمناورة للخروج بأقل الخسائر الممكنة.

عهد سوريا كدولة مستقلة ذات سيادة انتهى، وما بعد ذلك هو تخوف بقية الدول في الشرق الأوسط على أمنها القومي. لهذا السبب، إعادة العلاقات بين دمشق وأنقرة ممكنة لكن على جزئيات فقط. أنقرة لن تمد حبل النجاة لبشار الأسد وهو منزلق في المستنقع منذ ثلاثة عشر عاماً بسبب دعمهم المتواصل لحزب العمال الكردستاني على مدار أربعة عقود مما تسبب بإفراغ أربعة آلاف قرية وبلدة في جنوب شرق تركيا وتهجير مليون شخص منها.

بشار الأسد يدرك جيداً أن الأتراك لن يمدوا له حبل النجاة، لهذا السبب يتعامل بحذر وخشية وتردد مع التصريحات الموجهة له من الساسة الأتراك على وجه الخصوص.

 

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى