على عكس ما تزعم الأصوليات من كل حدب وصوب فإنّ مستقبل البشرية ليس للصدام الحضاري وإنما للتفاعل والحوار والاستفادة المتبادلة. إنّ العالم غني بثقافات القارات الخمس، ومضطر إلى صياغة قواعد لتعايشها وانسجامها. فهل نستطيع الحفاظ على رؤية لمشروع كوني يتماشى مع التعددية ويغتني بالثقافات المتنوعة؟ أم أننا مقبلون على عالم أحادي الجانب تسود فيه ثقافة معينة بقيمها وعاداتها وتقاليدها، الأمر الذي من شأنه أن يؤثر سلبا على الثقافات الأخرى؟ هل يمكن أن يصل الأمر إلى أن يصبح العالم كله مجتمعاً واحداً يتم صبه في قوالب حضارة معينة تذوب فيها بقية الثقافات؟ أم أنّ عالماً من هذا القبيل يعد ضرباً من الخيال الذي يدخل في عداد المستحيلات نظراً لتناقضه الصارخ مع طبيعة الحياة القائمة على التفاعل الإيجابي بين مختلف التنوعات والاتجاهات على جميع المستويات؟
إنّ التقوقع الثقافي لم ينفع أهله في القرون الماضية، ولن ينفعهم اليوم، فالتجدد صفة تحفظ حيوية الثقافة، والانفتاح على العالم والآخر من سماتها المميزة، فهي كالهوية ليست ثابتة إنما متحولة وكل من يتعامل معها من دون وعي بخصوصيتها يدمر أجمل ما فيها.
أما الوضع عندنا فهو تبرير السائد وترديد السابق ومحدودية الميل إلى المساءلة وإلى التغيير وإلى استشراف المستقبل. وهنا تكمن صعوبة الدور المنوط بمثقفينا العرب النقديين حين يجعلون الثقافة موضوعاً للفهم والتحليل وليس صنماً للتقديس، على اعتبار أنّ الثقافات جميعها واسطات للتعبير الإنساني ومعابر للوصول إلى الكوني الذي يجمع البشر.
إنّ المثقف المقصود هو من يقبل الانتماء المزدوج، انتماء نقدي إلى ثقافته وانتماء طوعي إلى مجتمع عابر للقوميات والأوطان والأديان، مجتمع عابر للثقافات يحاول أن يصوغ لغة تداول كونية بين البشر وينحت إشكالات ومفاهيم وحلولاً تستجيب لتطلعات الإنسان لحياة حرة كريمة. إذ إنّ التفكير من داخل المحلي وحده إعادة إنتاج للثقافة دون إبداع وترديد للتراث دون نقد، في حين أنّ محاولة بلوغ الكوني دون تأمّل المحلي تهرّب من مهمة المساهمة في التغيير واكتفاء بترديد الأفكار دون التزام بنشرها في مصطلحات تفهمها الأغلبية ودون ربطها بما تراه قضاياها ومشاكلها. والحداثة النقدية هي التي تقبل هذا الانتماء المزدوج وهذا الجهد المضاعف المتمثل في تأمّل المحلي وسيلة لبلوغ الكوني، وتأمّل الكوني وسيلة لإدراك المحلي.
وهنا يجدر بنا أن نتوقف عند ثلاثة مفاهيم رئيسية تجعلنا أكثر دقة في تناول الموضوعات التي نطرحها، وهي مفاهيم الحضارة والمدنية والثقافة، كما عبّر عنها الدكتور يوسف نور عوض. إذ يبدو أنّ مفهوم الحضارة مغاير لكل المفاهيم التي نحاول استخدامها في فرضيــة ” حوار الحضارات “، ذلك أنّ الحضارات لا تتحاور لأنّ في العالم حضارة واحدة هي الحضارة الإنسانية، وهي تتعلق بكل المكتشفات العلمية والمؤسسية التي توصل إليها الإنسان. ووفق هذا المفهوم تصبح المكتشفات الحضارية بالضرورة خارجة عن حدود الزمان والمكان، وبالتالي لا يمكن أن نقول بحضارة صينية وأخرى عربية من هذا المنظور، لأنّ المكتشف الحضاري يخرج عن حدود الزمان والمكان.
ولكنّ الأمر يختلف في ما يتعلق بالمدنية التي هي تحويل المكتشفات الحضارية إلى نفعية اجتماعية، فهذه النفعية تتشكل بحسب ظروف الزمان والمكان وذلك ما يسمى بالمدنية.
وأما الثقافة فشأنها آخر لأنها تولد وتنمو وتتشكل في إطار المجتمع وتتأثر إلى حد كبير بالطريقة التي يفكر بها الناس، وتلعب المعتقدات والأديان دوراً كبيراً في تشكيلها. وفي ضوء هذا الفهم سنجد أنّ معظم الاختلافات بين الأمم إنما تكون في إطار الثقافة وليس في إطار الحضارة أو المدنية، ذلك أنّ الحضارة مشتركة والمدنية تتلون بألوان التقدم الحضاري، ولكنّ الثقافة لا يمكن إلا أن تكون مختلفة. وبالتالي فإنّ الحوارات لا تكون إلا في مجال الثقافة، وهو ما يسلط الضوء على صعوبة التحاور الثقافي عندما تكون منطلقات الشعوب مختلفة.
وربما كان من الضروري أن نحدد معنى الحضارة في تميّزها عن الثقافة وفي تقاربها منها، خاصة أنّ الناس غالباً ما يدمجون بين هذين المفهومين. فالحضارة، في المعنى الحصري، هي نمط عيش وطريقة تعامل مع الكون ومع الإنسان الآخر ومع المجتمع أو المجتمعات، بينما الثقافة هي حياة الروح والفكر والقيم في صورة أولى، وهي تتطلب للحصول عليها جهداً خاصاً من كل إنسان، إذ يمكن أن يكون المرء حضارياً دون أن يكون كثير الثقافة، كما يمكنه أن يكون مثقفاً دون أن يتعاطى مع كل مستلزمات الحضارة.
وبهذا الصدد نلاحظ أنّ كلمة ” ثقافة ” باللغة العربية تتميز تميّزاً واضحاً عن كلمـــــة ” حضارة “، وذلك بتركيزها على الجوانب النظرية والفكرية والروحية والفنية والجمالية بشكل عام، أي على النواحي المعنوية من الحضارة. ويبدو ذلك واضحاً في تعريف ” المعجم الوسيط “، إذ يعرّف الثقافة بأنها ” العلوم والمعارف والفنون التي يُطلَب الحذق فيهــا “. ويسانده في ذلك ” المعجم الفلسفي ” الذي يفرّق بين كلمة ” الحضارة ” التي تميل إلى الطابع الاجتماعي والمادي الأشمل، وكلمة ” الثقافة ” التي توصف بأنها ” كل ما فيه استنارة للذهن وتهذيب للذوق، وتنمية لِمَلَكَةِ النقد والحكم، لدى الفرد أو في المجتمع، وتشتمل على المعارف والمعتقدات، والفن والأخلاق، وجميع القدرات التي يسهم فيها الفرد في مجتمعه، ولها طرق ونماذج عملية وفكرية وروحية، ولكل جيل ثقافته التي استمدها من الماضي، وأضاف إليها ما أضاف في الحاضر، وهي عنوان المجتمعات البشرية “.
بينما تُستعمَل كلمة ” ثقافة ” في الغرب للتعبير عن الحضارة الشاملة، بمؤسساتها ومظاهرها وأسسها المادية والمعنوية، حيث تشمل الأمور التالية: تهذيب وتدريب العقل والعواطف وآداب السلوك وغيرها، وحصيلة هذا التدريب كله، ومفاهيم وعادات ومهارات وفنون وأدوات ومؤسسات…، أي الحضارة. ويظهر ذلك في تعريف قاموس وبستر (Webster s Third New International Dictionary) للثقافة ” نموذج كلي لسلوك الإنسان ونتاجاته المتجسدة في الكلمات والأفعال وما تصنعه يداه، وتعتمد على قدرة الإنسان على التعلم ونقل المعرفة للأجيال التالية”.
وقد أعلن بعض المفكرين العرب عن عدم تمييزهم الجوهري بين مصطلحي الثقافة والحضارة ” … إنّ الفارق بينهما يكمن في أنّ الحضارة هي ثقافة تطورت تطوراً ذاتياً مما دفعها ويدفعها إلى تجاوز حدودها المجتمعية المحلية الخاصة إلى التوسع والامتداد، فارضة نفسها على مجتمعات وأقاليم وتشكيلات اقتصادية واجتماعية وثقافية أخرى في عصر ما أو مرحلة تاريخية معينة. إنها نقلة متطورة من الخاص إلى العام مهما كانت حدود هذه النقلة. أي أنّ الحضارة هي خصوصية ثقافية معممة سائدة خارج حدود نشأتها المحلية الأولى “، على حد تعبير الدكتور السيد يسين.
ويرى الدكتور طيّب تيزيني أنّ مصطلح الحضارة يمثل أمراً مركباً من حقلين اثنين: المدنية والثقافة. أولهما، يتجسد في الإنتاج المادي، بكل ما تشتمل عليه هذه اللفظة من تجليات وتشخصات، بدءاً من أبسط عملية في الإنتاج المادي السلعي وانتهاء بأكثر النظم المعلوماتية تقصداً. وثانيهما، يتعلق بالبنية السوسيو- ثقافية والنفسية الموازية لذلك الإنتاج المادي والمتواشجة معه، ومن ثم المؤثرة فيه، على نحو أو آخر. ويتابع ” إنّ وحدة المدنية والثقافة في مرحلة تاريخية معينة، وفي سياق جغرافي محدد، تنتج نمطاً من أنماط الحضارة. ومن أجل أن يكتسب هذا النمط هوية ما، فإنه يقتضي الاستمرار لفترة تاريخية كافية يتوضع فيها ويفصح عن نفسه في كل القطاعات الاجتماعية، الأمر الذي يؤسس لعناصر التمايز بين هذه الحضارة وحضارات أخرى “.