نظام بوتين الواهن ||  مثل سلفه السوفياتي يقف هذا النظام باستمرار على حافة السقوط

مكسيم ساموروكوف

على رغم صلابته الظاهرية على الغرب أن يدرك أن الأحداث في روسيا قد تخرج من سيطرة الكرملين في أية لحظة مما يؤدي إلى سقوط سريع لنظام بوتين

تبدو قبضة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على السلطة، وفق عديد من المظاهر الخارجية، أشد من أي وقت مضى. فروسيا اليوم تعافت من الهزائم العسكرية المبكرة في أوكرانيا ومن الصدمة الأولى للعقوبات الغربية. ويتدفق نفطها نحو أسواق جديدة في آسيا، من بينها أسواق الصين والهند وتركيا، كما ينتج قطاع الصناعة العسكرية الروسي أسلحة أكثر مما تنتجه أوروبا مجتمعة. وفي الداخل تمكن بوتين من القضاء على ما تبقى من معارضة سياسية يميناً ويساراً، إذ قام بتصفية قائد المرتزقة يفغيني بريغوجين الذي مني تمرده على موسكو بالفشل في الصيف الماضي، وقائد المعارضة ذي الشعبية الكبيرة أليكسي نافالني، الذي توفي بالسجن في سيبيريا بشهر فبراير (شباط)، من ثم فاز بوتين بولاية رئاسية خامسة غير مسبوقة بانتخابات رئاسية منسقة أجريت في مارس (آذار) الماضي. أما المجتمع الروسي، في الأثناء، المعزز بزيادة 16 في المئة على الإنفاق العام، فقد تكيف مع حال “المواجهة الوجودية” ضد الغرب بأسلوب موسكو، التي يبدو الكرملين مستعداً للمضي بها حتى النهايات المريرة.

لكن في الواقع روسيا بوتين ضعيفة وواهنة، وضعفها ليس مرئياً على الملأ. إذ إن الكرملين الآن وأكثر من أي وقت مضى يتخذ قراراته بطريقة شخصانية وتعسفية، تفتقر حتى إلى أبسط الضوابط ومعايير المراقبة. وباتت النخبة السياسية الروسية منذ إطلاق موسكو اجتياحها الشامل لأوكرانيا مشغولة أكثر فأكثر في تنفيذ أوامر بوتين والتملق في تبني وجهة نظره الارتيابية تجاه العالم. وتتراكم في السياق أثمان أوجه العيوب الهيكلية هذه. إذ حتى هجوم فظيع كالذي نفذه تنظيم الدولة الإسلامية (أو داعش خرسان) على قاعة حفلات موسيقية في ضواحي موسكو بيوم الـ22 من مارس (آذار) – وأودى بحياة 145 مدنياً – فشل في حمل القيادة الروسية على مراجعة أولوياتها.

نظام بوتين، الذي يمثل نظاماً شخصانياً بدرجة كبيرة يديره بيروقراطيون مسنون، هو أكثر تداعياً مما يبدو عليه. فموسكو المنقادة خلف نزوات بوتين وأوهامه باتت اليوم عرضة للوقوع في أخطاء فادحة ترتد عليها. إذ تقوم الدولة الروسية على نحو فعال بتنفيذ القرارات والأوامر الصادرة من أعلى الهرم القيادي، لكنها لا تتحكم بجودة تلك القرارات والأوامر. ولهذا السبب تبقى الدولة الروسية باستمرار عرضة لخطر انهيار قد يحصل بين ليلة وضحاها، كما حدث مع النظام السوفياتي قبل ثلاثة عقود.

عثرات الأوتوقراطية

المؤرخ والاستاذ في جامعة برينستون ستيفن كوتكين أشار مرة إلى أن الغرب فشل في استشراف انهيار الاتحاد السوفياتي، لأن الأخير ببساطة لم يظهر علامات انهيار. لم يكن هناك اتجاهات طويلة الأمد توحي بحتمية الانهيار السوفياتي. بل إن ما سقط كان دولة مستقرة نسبياً، انهارت نتيجة سلسلة قرارات اتخذت في أعلى الهرم القيادي وجرى تنفيذها من دون أية مراجعة أو نقد من نظام يفتقر إلى الضوابط والموازين. وعلى رغم أن الشبه والمقارنة في هذا الإطار قد يبدوان في البداية غير مرجحين، إلا أن وضع بوتين اليوم يستحضر في بعض نواحيه الوضع الذي واجهه الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف في السنوات الأخيرة من عمر الاتحاد السوفياتي. إذ أصدر غورباتشوف في أواخر الثمانينيات التعليمات للأجهزة المحافظة للمضي قدماً في تحرير سياسات البلاد واقتصادها. ولم يظهر المسؤولون الذين وصلت إليهم تلك التعليمات، والمعتادون على تنفيذ الأوامر الصادرة من أعلى الهرم القيادي، أية مقاومة تذكر تجاه ما أمروا به. لا يتحلى بوتين بأي شيء من مثالية غورباتشوف الإنسانية، لكنه يشبه الأخير في منحى مهم واحد: قدرته على فرض رؤيته الشخصية على الدولة الروسية.

استخدم بوتين سلطته المركزة لزج روسيا في حرب وحشية ضد أوكرانيا. وتقوم أجهزة الدولة الروسية البيروقراطية بتخصيص مزيد من موارد البلاد لتحقيق وتنفيذ أمنيات الرئيس. بعض نتائج هذا النظام الذي يزداد أوتوقراطية باتت واضحة جداً. فبوتين قوض الحريات السياسية، وأفقر المشهد الإعلامي، وأجبر كثيراً من المواهب والكفاءات الروسية على اللجوء إلى المنفى. إلا أن هناك نتائج وتأثيرات أخرى تبقى أقل وضوحاً وظهوراً للعيان. إذ أمضت أجهزة الأمن الروسية عقوداً في محاربة التطرف الإسلامي في الداخل بشمال القوقاز، وفي الخارج بسوريا. لكن حرب بوتين في أوكرانيا جعلت المعرفة المؤسساتية التي راكمتها أجهزة الأمن الروسية تذهب أدراج الرياح، وهذه الأجهزة اليوم تتجاهل المعلومات التي تردها من وكالات الاستخبارات الغربية. قبل أسبوعين من مركز “كروكوس سيتي هول” (حيث وقع هجوم داعش خرسان) حذرت الولايات المتحدة (عبر وكالاتها الاستخبارية) أن قاعة الحفلات الموسيقية تلك قد تكون هدفاً للإرهاب. أما بوتين فوصف التحذيرات الأميركية تلك بأنها محاولات لـ”إخضاع مجتمعنا وزعزعة استقراره”.

لم تعد مهمات تحري المتطرفين الدينيين العنيفين والقبض عليهم من أولويات الدولة الروسية، فيما يقوم الرئيس بحرف مصادر الدولة لكي تعمل على نسج علاقات تآمرية متخيلة تربط بين أفعال الإرهابيين وكييف. وعليه، فحتى هجوم إرهابي كبير قرب العاصمة الروسية نفسها لم يحدث صحوة في هذا المجال. إذ عبر توجيه المسؤولين الروس إلى محاولة إثبات تورط أوكراني في مجزرة الحفلة الموسيقية يقوم بوتين على نحو فعال بإعاقة التحقيق، وصرف الانتباه عن مهمة وضع تدابير من شأنها منع وقوع هجمات كهذه في المستقبل. من جهتهم وعلى نحو مماثل، قام الوزراء الذين يتولون حقائب اقتصادية بوقف التنسيق في ما بينهم. وباتوا عوضاً عن ذلك يركزون على إنتاج بيانات وأرقام ترضي بوتين. وتأتي في هذا السياق جهود المصرف المركزي (الروسي) الهادفة إلى كبح التضخم عبر رفع معدلات الفائدة، لتمضي يداً بيد في موازاة القروض المدعومة من الدولة التي تضخم الطلب المحلي. وفرضت الحكومة في الإطار حظراً على تصدير منتجات النفط الروسية، ثم ألغت الحظر المذكور، لتعاود فرضه في ما بعد، وذلك ضمن واقعة شكلت جزءاً من حرب النفوذ القائمة بين وزارة الطاقة، الساعية إلى خفض الأسعار المحلية، ووزارة المالية الساعية إلى زيادة الإيرادات. وقام البيروقراطيون الذين يديرون الاقتصاد الروسي بتحويل ما طرح كمعالجات موقتة، إلى معالجات دائمة وثابتة، من أجل تلافي الحلول الحقيقية التي قد لا ترضي الرئيس.

لقد نال صناع السياسات الاقتصادية الروسية إشادة دولية لتمكنهم من إبقاء اقتصاد البلاد متماسكاً على رغم العقوبات الغربية غير المسبوقة، إلا إن سلطوية الكرملين اليوم تعرقلهم على نحو متزايد، وبات من غير الواضح إلى متى يمكن الحفاظ على حال الاستقرار الراهنة. كما يمكن أيضاً التخلي نهائياً عن أولئك التكنوقراطيين لو رأى بوتين أن المجهود الحربي يتطلب مزيداً من التشدد.

وهن التخبط

يميل تخبط بوتين اليوم لأن يكون مدمراً تماماً مثل القرارات الفعلية التي يتخذها، وهنا تبدو أوجه الشبه مع الاتحاد السوفياتي السابق مذهلة على نحو خاص. إذ بحلول عام 1989 كان غورباتشوف شعر بالرهبة إزاء حجم التغييرات التي بدأها بنفسه، لدرجة أنه حاول وقف الإصلاحات، تاركاً أجهزة الدولة في حال ارتباك وبلا رؤية واضحة ومتماسكة للمضي قدماً. ونتيجة غياب التوجيه من أعلى الهرم القيادي انجرف النظام السوفياتي لبعض الوقت قبل انهياره الكامل. روسيا الحديثة اليوم تواجه مشكلة مماثلة. فبوتين الذي أطلق حرب استنزاف شاملة نادراً ما يزعج نفسه كي يشرح للجهات الحكومية وشبه الحكومية الفاعلة طريقة التكيف مع الواقع الجديد. وبغياب التعليمات تغرق تلك الجهات بالغيبوبة، أو تتولى الأمور بأيديها وعلى طريقتها، مما ينتج أحياناً عواقب كارثية. واقعة تمرد زعيم المرتزقة بريغوجين شكلت مثالاً على ذلك. إذ كانت شركة فاغنر للميليشيات الخاصة التي يملكها بريغوجين ويمولها الكرملين، تعايشت بصعوبة مع وزارة الدفاع (الروسية) طوال سنوات، لكن ما أن راحت الحرب تزداد تعثراً في الجبهات الشرقية بأواخر ربيع 2023 حتى وصل العداء المتبادل بين فاغنر ووزارة الدفاع إلى ذروته. وعندما رفض بوتين التوفيق بينهما، بدأ بريغوجين عصيانه، وأرسل آلافاً من عناصر المرتزقة المدججين بالسلاح إلى ضواحي موسكو. ولم تظهر الأجهزة الأمنية الروسية المترهلة مقاومة تذكر. تدخل بوتين جاء قبل اللحظات الأخيرة من بلوغ التمرد موسكو، منسقاً نهاية تفاوضية للأزمة، من ثم أمر (على نحو شبه مؤكد) بإسقاط طائرة بريغوجين الخاصة، مما أدى إلى مصرعه. وكشفت تلك الأزمة عن العجز المذهل الذي تعانيه الدولة الروسية، القوية ظاهرياً، وذلك في غياب تعليمات الزعيم القابع في أعلى الهرم القيادي. كما أسهمت الأزمة المذكورة في دفع البلاد نحو شفير حرب أهلية بين قوى الحكومة وبين جيش المرتزقة الخاص، الخاضع لأوامر زعماء الحرب.

وبعد مضي شهرين أدى فشل بوتين في كبح جماح التطرف إلى تمهيد الطريق لمحاولة القيام بمذبحة في منطقة داغستان بجنوب روسيا ذات الأغلبية المسلمة، وذلك عندما اقتحم حشد غوغائي غاضب مطاراً هناك بحثاً عن يهود قادمين من تل أبيب. هكذا تحرك كان يستحيل حدوثه قبل الاجتياح الشامل لأوكرانيا، إلا أن روسيا طورت تعاونها مع إيران منذ بداية الحرب، فتغلغل العداء الإيراني للصهونية ليقترن بخطاب موسكو المعادي للغرب. ولم تعلم السلطات المحلية (في داغستان) إن كان عليها دعم أولئك “الناشطين المعادين لإسرائيل” أو قمعهم. وتطلب الأمر في نهاية المطاف تدخلاً مباشراً من موسكو لتفريق الحشد الغوغائي.

كذلك فإن الخسائر البشرية الفادحة نتيجة هجوم “داعش” خرسان بضاحية من ضواحي موسكو جاءت أيضاً نتيجة الإشارات الغامضة والمتناقضة الصادرة من الكرملين. إذ إن وكالات الاستخبارات الروسية مولجة، من جهة، بمكافحة الإرهاب. وهي، من جهة أخرى، تلتزم عادة مؤسساتية مزمنة تتمثل في النظر بريبة إلى المعلومات القادمة من قوى غربية. ما كان هجوم الـ22 من مارس (آذار) على الأرجح ليوقع هذا العدد من الضحايا، وربما كان ليحبط، لو حافظت موسكو على قنوات تبادل استخبارية فعالة مع الغرب. إلا أن بوتين عوضاً عن ذلك تجاهل التحذيرات الأميركية وعدها “ابتزازاً”، فامتنعت وكالات الاستخبارات الروسية بالتالي عن التعامل بجدية مع المعلومات الحساسة التي وردتها.

بيت بوتين الورقي

تعززت ظاهرة عدم مرونة بوتين وعناده عبر السنوات التي قضاها محاطاً بالببغاوات ورجال الـ”نعم” (سيدي). فهو المحصن من ردود الأفعال السلبية (تجاه قراراته) والمشورة الموضوعية صار عرضة لرؤية محدودة، وأولويات مشوشة ونوبات غضب عاطفية، وهذه أمور كلها تترجم وتصرف في قرارته. وبالتالي تنعكس نتائج ذلك في سياسات روسيا الخارجية وأمنها الداخلي وآفاقها الاقتصادية.

التاريخ والإرث الشخصي شكلا هاجساً لعديد من الحكام السلطويين، وبوتين ليس استثناء في هذا الأمر. المدة التي قضاها في السلطة تفوق مدة رئاسة أي زعيم روسي منذ ستالين. واليوم، في سن الـ71، يقترب الرجل أيضاً من العمر الذي مات فيه معظم أسلافه (القادة الروس) في القرن الـ20. من المؤكد في هذا الإطار أن تفكيره بعمره واحتمال موته يؤثر في عملية صنعه القرارات. إذ إن شعوره المتزايد بضيق الوقت أسهم بلا شك في قراره المصيري بغزو أوكرانيا عام 2022. والأمر قد يتجلى أيضاً في أخطاء أكثر فداحة حتى. في الظاهر يبدو نظام بوتين مستقراً. فانقياد النخبة الروسية وصمود الاحتياطات المالية الهائلة وإيرادات النفط وحذاقة الدولة في تشكيل الرأي العام، كلها أمور جعلت بوتين يبدو زعيماً لا يقهر. إلا أن نظامه “لا يتداعى” تماماً مثلما كان نظام الاتحاد السوفياتي السابق “لا يتداعى”. لكن كما كان الحال مع الاتحاد السوفياتي، فإن هيكلية نظام بوتين تجعله أكثر هشاشة وضعفاً مما يبدو عليه في الظاهر. خذوا في الاعتبار هنا أنه قبل عام واحد لم يكن بإمكاننا تصور أن يقطع مرتزقة بريغوجين مئات الأميال نحو موسكو من دون أن يواجهوا على طول الطريق أية مقاومة تذكر، أو أن نتصور حشداً معادياً للسامية يقتحم مطاراً روسياً دولياً. أشياء يصعب التنبؤ بها من هذا القبيل ستشكل على الأرجح أزمات النظام الروسي المستقبلية. حتى أحداث ثانوية، سواء كانت انتكاسات في أوكرانيا، أو نزاعات داخلية بين النخبة، أو اضطرابات محلية جديدة، يمكن إن تسارعت بفعل تلكؤ السلطات أو السياسات المستندة إلى أوهام بوتين، أن تؤدي إلى انهيار سياسي شامل. وهذا لا يتعلق بخطورة مشكلات روسيا، بل بكيفية تعامل الكرملين معها، بعد أن وضع النظام الروسي باستمرار على حافة الانهيار.

قد يأخذ الانهيار سنيناً كي يتبلور. أو ربما يحدث في غضون أسابيع. لكن في الحالتين على الغرب أن يدرك أن الأحداث في روسيا قد تخرج من سيطرة الكرملين في أية لحظة، مما يؤدي إلى سقوط سريع لنظام يبدو منيعاً.

* مكسيم ساموروكوف باحث في مركز كارنيغي لشؤون روسيا أوراسيا في برلين.

مترجم عن “فورين أفيرز”، 25 أبريل 2024

المصدر: اندبندنت عربية

 

هذا المقال ليس بالضرورة أن يعبر عن رأي الموقع

زر الذهاب إلى الأعلى