تابع العالم كلّه أنباء الاستقطاب الحاد الحاصل في الولايات المتّحدة، بين الجمهوريين والديمقراطيين، كما يتابع نتائج استطلاعات الرأي وحظوظ كلّ مُرشّح في الفوز. وفي الوقت ذاته، أصبحت أخبار المُرشّح الجمهوري، الرئيس السابق دونالد ترامب، أشبه بالمسلسلات المحلّية المُكرّرة المُملّة. ولكن اللافت هو أنّ كلّ الاتهامات والفضائح والمخالفات الجنائية التي يواجهها ترامب لا تؤدّي إلى خفض مستوى شعبيته، بل على النقيض من ذلك، تؤدّي في كثير من الأحيان إلى ارتفاعٍه. فهو يخاطب بنَفَسٍ شعبوي أهل الريف وسكان الضواحي، والعنصريين والمتطرّفين، الذين يشعرون بالغُبن، ولا يثقون بالطبقة السياسية التقليدية. وما يجري راهناً في أميركا يؤكّد أنّ النظام الديمقراطي، وهو في الأساس ليس بالنظام المثالي وإنّما هو الأقلّ سوءاً من بين الأنظمة الأخرى، يعاني من جملة تحديات وجودية، تستوجب التجديد والمراجعات الشاملة لقواعد العملية الديمقراطية، التي لم يعد كثير منها منسجماً مع طبيعة المتغيّرات التي أثّرت في واقع المجتمعات الإنسانية بوضوح، منذ بدايات فترة ما بعد الحرب الباردة.
يتمثل هدف المراجعات المطلوبة في ضرورة ارتقاء التجديد المطلوب إلى مستوى التحدّيات المتعاظمة باستمرار. وفي مقدّمة هذه التحدّيات: الشعبوية والنخبوية، بالإضافة إلى قضايا الهجرة والبيئة، وتبعات اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي، وعدم المساواة الرقمية والعنصرية، وهيمنة مجموعة محدودة من الأشخاص على مفاصل أساسية في الاقتصاد العالمي. هذا، إلى جانب مصلحة تجّار السلاح في تشجيع الحروب والقلاقل في مختلف أنحاء العالم. هذه التحديات كلّها، وغيرها، تهدّد الأنظمة الديمقراطية لا سيّما الضعيفة أو المُتكلّسة منها. ولدينا أمثلة في التاريخ القريب، وليس البعيد، فما حصل في اليونان عام 1967، وفي تشيلي 1973، وما يحصل من حين إلى آخر في أماكن أخرى في العالم من انقلابات، خاصّة في أفريقيا، يؤكّد أنّ الثغرات التي يعاني منها النظام الديمقراطي تفسح المجال أمام القوى المناوئة، المحلّية والإقليمية والدولية، لاستغلالها، وإيجاد موطئ قدم في داخل تلك الأنظمة بغية تخريبها من الداخل.
لقد باتت الشعبوية، والشعارات العنصرية التعبوية، وإثارة مشاعر كراهية الإسلام، بصورة عامة، من دون التمييز بين الحركات الإسلاموية التكفيرية المُتطرّفة، والمسلمين المتدينين المعتدلين، الذين يعانون التكفير أكثر من غيرهم، من التقنيات والأدوات التي تستخدمها الأحزاب والتيارات العنصرية المنتشرة والمتنامية في مختلف الدول الأوروبية، سواء الشرقية أم الغربية. وليس سراً أنّ هذه التيارات قد انتعشت خلال حكم ترامب، وهي تمنّي النفس بفوزه في الانتخابات المقبلة؛ الأمر الذي سيدفع بالأوضاع العالمية نحو المزيد من التوتّر والتشدّد، خاصّة إذ أخذنا في الاعتبار الموقف المُتوقّع لترامب تجاه الحرب الروسية على أوكرانيا، وهو الذي لم ينبس ببنت شفة في ميدان توجيه النقد إلى بوتين، وسياساته في سورية ووقوفه إلى جانب سلطة آل الأسد، واستخدام أحدث الأسلحة الروسية في قصف السوريين المناهضين للسلطة المعينة، الأمر الذي أدّى إلى تدمير مدنهم ومشافيهم ومدارسهم ومجمعاتهم السكنية.
ولكن، أبرز المخاطر التي تهدّد الأنظمة الديمقراطية بصورة عامة، وتحد من إمكانية “الدمقرطة” في المجتمعات الأخرى، تتمثّل في تراجع الثقة بالنخب السياسية، والشعور بالظلم والإهمال والتهميش، لا سيّما في مناطق الريف والبلدات البعيدة عن العاصمة، وحتّى في الضواحي والعشوائيات المحيطة بالعاصمة، وغيرها من المدن الكبرى، وغالباً ما تشكّل هذه البيئات الأرضية الخصبة لانتعاش الحركات المُتطرّفة بتوجّهاتها المختلفة، كما تكون ميداناً رحباً لأصحاب السوابق والمجرمين ممّن يتاجرون بالمخدّرات والأسلحة والبشر. وقد أثبتت التجارب، بصورة عامة، أنّ الحل الأمثل في منع وصول الأمور إلى الأوضاع الكارثية بكلّ الصيغ، وفي مختلف المستويات، هو مكافحة الفساد، سيّما المالي، وتطبيق العدالة المجتمعية الاقتصادية في مختلف أنحاء البلاد، من دون أيّ تمييز بين الريف والمدينة، والمناطق القريبة من العاصمة والبعيدة عنها، ومناطق الأغنياء ومناطق الفقراء، ومن دون اعتبار للانتماءات الدينية أو المذهبية أو القومية أو غيرها. ويمكن الاستعانة، في هذا المجال، بمثال من الواقع الأوروبي بعيد الحرب العالمية الأولى. فما حصل في ألمانيا هو عدم تمكّن الديمقراطية الهشّة من مقاومة استغلال التيارات المُتطرّفة، لا سيّما النازية، الثغرات التي كان يعاني منها النظام الديمقراطي، وتمكّنت، بعد الفوز في الانتخابات، من التسلّط على الحكم لتعطيل العملية الديمقراطية، وملاحقة الخصوم الواقعيين والمحتملين والمُتخيّلين.
هذا على المستوى الغربي، فماذا عن مستقبل الديمقراطية في مجتمعاتنا، في أجواء الاستبداد والفساد والإفساد، وإثارة النعرات العنصرية التدميرية والمذهبية الانتقامية؟
يبدو أنّنا كنّا متفائلين أكثر من اللازم، حينما اعتقدنا أنّ الديمقراطية قد أصبحت على الأبواب، وأنّ المُطالبة بها ستقنع غالبية السوريين، وستكتسب في الوقت ذاته تأييد الدول الديمقراطية، لا سيّما المُؤثّرة القادرة، في حال وجود الرغبة والإرادة، على إحداث تغييرات نوعية في المعادلات الوطنية والإقليمية، ولكنّنا اكتشفنا، في ما بعد، أنّ هناك كثيراً من العراقيل المحلّية التي تحول دون الوصول إلى النظام الديمقراطي، الذي نعتقد أنّه قادر على إيجاد الحلول للمشكلات التي يعانيها السوريون، مثل مشكلتهم مع الاستبداد والتمييز بكلّ أشكاله، كما أنّ الدول الغربية الديمقراطية كانت وما زالت تنظر إلى الأمور من خلال عدسة مصالحها، وليس مصالح الشعوب؛ ضحية الاستبداد والفساد والإفساد. وهكذا، اكتشفنا أنّ التبشير بالديمقراطية لم يكن يختلف كثيراً عن التبشير بالاشتراكية، الذي مارسه اليساريون والاشتراكيون والشيوعيون في مجتمعاتنا على مدى عقود، والتبشير بالوحدة القومية والتحرير، الذي مارسه، ويمارسه، القوميون منذ نحو قرن تقريباً. وهنا، أذكر قولاً لسيدة سويدية أثناء مناقشاتنا بشأن الأوضاع في المنطقة بصورة عامة، وفي سورية على وجه التحديد: “الديمقراطية ليست سلعة نشتريها من السوق، وإنّما هي حصيلة حاجة تفرضها تجارب مريرة”. أمّا المفكر الليبي الراحل الصادق النيهوم، فقد أشار في كتابه: “الإسلام في الأسر: من سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة؟” (دار الريّس، دمشق، ط 3، 1995)، إلى أننا ندعو إلى الديمقراطية من باب المحاكاة والتقليد. فجوهر النظام الديمقراطي يقوم على الأحزاب التي تجسّد مصالح الشرائح والطبقات الاجتماعية، في حين أننا نفتقر إلى الشرائح والطبقات المجتمعية الواعية لذاتها ومصالحها، من جهة، كما نفتقر إلى الأحزاب الحرّة القادرة على عرض وجهات نظرها، والدفاع عن مطالبها بصورة علنية، والمشاركة في انتخابات حرة نزيهة شفافة، من جهة ثانية.
ولكن، مع ذلك، يبدو أننا ما زلنا مُصرّين على الخيار الديمقراطي، مثلما كان اليساريون والاشتراكيون عندنا مُصرّين على الخيار الاشتراكي، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، اصطف معظمهم إلى جانب المُستبدّين، إن لم نقل إلى جانب المذهبيين الذين يخلطون عن عمد بين المذهب والسياسية، ويستغلّون المظلوميات الواقعية والمُتخيلة لصالح مشاريع قومية توسّعية، وعلى حساب الشعوب الأخرى، وعن طريق ممارسة القتل والتهجير. ما نحتاج إليه هو التفكير الجاد في بديل يتناسب مع خصوصياتنا المجتمعية، ويأخذ بعين الاعتبار واقع التباينات المجتمعية ومستوى التطور الاقتصادي ونوعية الأفكار، التي ما زالت فاعلة في تأثيرها على عقول قطاعات واسعة من الناس. والبديل الوطني المُنتظر يمكنه بطبيعة الحال الاستفادة من الإنجازات الديمقراطية، التي حققتها الدول الغربية، وهي إنجازات تحوّلت إلى ما يمكن أن نسميه بالخير العام، على حدّ تعبير الراحل صادق جلال العظم، عند تناوله موضوع العلمانية والإسلام.
ولكنّ التركيز ينبغي أن يكون على خصوصياتنا المجتمعية، لنتمكن من التقاط الجوانب الإيجابية فيها، وهي الجوانب التي يمكن أن تُبنى عليها المشاريع الوطنية. وفي سورية تحديداً، باعتبارها من أولوياتنا الأساسية، لا بدّ أن يكون المشروع الوطني، الذي يتطلع إليه معظم السوريين، قائماً على أساس طمأنة سائر المكونات المجتمعية السورية، من دون أيّ استثناء؛ أي بصرف النظر عن ماهية الانتماءات والأحجام، ويتحقّق ذلك عبر إتاحة المجال أمام الجميع للمشاركة في الحكم والإدارة، والاستفادة من الموارد الاقتصادية وفق أسس عادلة، تضمن كرامة الناس، وتمكّنهم من التعبير عن آرائهم بحرية وشفافية، على أن يكون كلّ ذلك محمياً من قضاء نزيه، يضع حدّاً للفساد والإفساد، ويضمن حقوق المواطن العيني وليس المُجرّد. وإذا بلغنا هذا المستوى من التنظيم والنضج والإحساس بالمسؤولية، والحرص على الوطن وأهله، فحينئذ، لن تكون هناك مشكلة في موضوع تسمية النظام، كما لن تكون هناك مشكلة في الاستعانة بالمجتمعيْن؛ الأهلي والمدني، ليكونا صلة الوصل بين أهل الحكم والمواطنين، وذلك بهدف امتصاص الصدمات، والمصادرة على احتمالات الانفجارات المجتمعية، وتحقيق صيغة من التعاون بين الجانبيْن، لتحسين قواعد العيش المشترك بين كلّ السوريين من جميع الانتماءات والتوجّهات، وفي سائر الجهات.
المصدر: العربي الجديد
قد لا يعبر هذا المقال عن رأي الموقع