بقدر ما يتوفّر لجامعة كولومبيا الأميركية من مكانة وأهمية بين الجامعات والمجتمع الأميركييْن، خصوصاً من ناحية تصنيفها ومثيلاتها من صروح النيوليبرالية الغربية، بقدر ما نُكبت هذه الجامعة وطلبتها برئيسةٍ تسري في عروقها سموم الاستبداد، الذي قد يستنتج طلبتها الذين أمرت بقمعهم، إذا ما تفكَّروا فيه، أنّها قد ورثته من منبتها في الشرق. وتعمَّق هذا التصور عند بروز نزعتها الفردية، حين بدا أنّها مُستعدّة للتضحية بكثير من ركائز الحرّية الأكاديمية والحقّ في التعبير، وكذلك بمستقبل الطلبة، من أجل بقائها في مركزها الوظيفي المرموق. وقد يفتح هذا الأمر لدى بعضهم في الغرب البابَ أمام استنتاجاتٍ بشأن ما إذا كانت نظرية أو مفهوم “الاستبداد الشرقي”، الذي حاول كثيرون تفكيكَه ونقضه، حقيقي وقائم، وليست ممارسات رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق إلا أحد أشكاله.
كان خيار شفيق شمشوميّاً حين لم تراعِ ميراثاً طويلاً من الحرّية الأكاديمية، التي لا يتنازل عنها طلبة الجامعات الغربية وأساتذتها، ويعدّونها شرطاً أساسياً للمُضي في دراساتهم وبحوثهم؛ إذ لم تَعْرِفْ أنّ تيار القمع الذي دعت إلى اعتماده مع الطلبة سيجرفها هي أيضاً عندما يتحكّم بقبضته البوليسية بجامعة أو أيّ مؤسّسة، يدعوه المسؤولون فيها إلى تولّي عملية التعامل مع “الخلل” الذي قد يتسبّب به منتسبوها. وهذا ما حدث حين اتُّهِمَت شفيق ذاتها بالتقصير في تعاملها مع الطلبة، وطُلبَ منها تقديم استقالتها إثر ذلك. لكنّ الأمرَ قد لا يتوقّف عند استقالتها، بل سيبقى زملاؤها، والطلاب الذين أمرت بقمعهم، يتذكّرون فعلها الاستبدادي، وسيستمرون في النظر إليها باعتبارها آتية من مجتمعٍ تختلف ثقافته واقتصاده السياسي عن ثقافة المجتمعات الغربية واقتصادها، هذا المجتمع الذي يعتمد القسر في عمليات الإنتاج، وفي النشاطات الاجتماعية الأخرى كافّة. وسيستدعون النظرة السابقة التي تكوّنت عنه في قرون، والتي كانت ترى فيه مجتمعاً منغلقاً وراكداً ومتخلّفاً بفئاته كلّها، وحتى فئة النخبة التي تخرُج منه، والتي يمكن لها أن تحوز تحصيلاً علمياً عالياً، سيعتقدون أنّه لا يمكنها التطوّر والخروج من ذلك الانغلاق لكي تُجاري النخب في الدول الغربية وبقيّة الدول المُتقدّمة، من ناحية التحرّر وتبنّي حرّية التعبير واحترام الرأي الآخر، وهو ما أثبتته شفيق. كما سيعودون إلى الصورة الدائمة بشأن هذه المجتمعات، والتي تقول إنّ الاستبداد مُتجذّر في الثقافة العربية حتى لا يمكن للإنسان في هذه المنطقة الفكاك منه، وربما لذلك قد يستنتجون سبب فشل الانتقال إلى الديمقراطية في جميع الدول العربية، كذلك سبب فشل ثورات الربيع العربي التي كان التحرّر والحرّية من أهدافها.
لن نُغرِّب كثيراً أو نشرِّق للتأكّد من استبداد نعمت شفيق الفردي، حين اتخذت قرار قمع الطلاب المُحتجّين على دعم إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ الفلسطينين في غزّة، ودعمها الكيان الإسرائيلي بالسلاح والمال، وللمطالبة بسحب الجامعة استثماراتها من الكيان. بل سنعود إلى كتاب عبد الرحمن الكواكبي: “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، ونقف على تعريفه الاستبداد، فندرك كم كانت تلك البروفيسورة مُستبدّة، وكم يمكن تشبيهها بأيّ طاغية من طغاة شرقنا المنكوب حين طلبت من شرطة نيويورك التدخّل لفضّ اعتصام الطلاب، واعتقال ما يُتاح لها اعتقاله من الطلبة. يقول الكواكبي: “الاستبداد لغةً هو غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة”. فاعتماداً على هذا التعريف، يمكن القول إنّه من المُحتمل أنّ الرئيسة شفيق لم تتحاور مع الطلبة أو تحاول ثنيهم عبر النقاش عن فعلهم في الاحتجاج الذي يُعدّ من حقوقهم، بل اتخذت من فورها قرار دعوة شرطة المدينة إلى وقف احتجاجهم. ويتبين من فعلها أنّها ربما كانت غير مُدركة قوانين الجامعات في الغرب التي جعلت دخول قوات الشرطة إليها أمراً محرَّماً لا يمكن لها الإقدام عليه، ولا تنفّذه إلا في حال طلبت إدارة الجامعة ذلك. وقد تُلام شفيق بسبب جهلها هذا الأمر وقد لا تلام. فهي قد ترعرعت في مجتمع يسيّس نظام الحكم فيه المدارس، ويجيّش طلاب الجامعات والمدرّسين، ويتّخذ من مبانيها مقرّات لأجهزة أمنه السرّي. وفي حالاتٍ مُتقدّمة يُخضع الطلاب فيها للتحقيق وربما التعذيب بسبب آرائهم، بدلاً من سوقهم إلى مراكز الأمن المتوفّرة بكثرة خارج أسوار الجامعات. لذلك، ربّما ظنت شفيق أنّها قد تُساق إلى مراكز الأمن السرّية في الولايات المتحدة وتعاقَب، فسارعت إلى تنصيب نفسها مُخبراً متطوّعاً لتحافظ على رأسها، كما حال بعضٍ من أمثالها في كثير من الجامعات العربية.
ولكن، لماذا هذا التركيز على نعمت شفيق، بينما عارض رؤساء جامعات أخرى مطالب طلابهم، ووقفوا ضدّ احتجاجاتهم، وسمحوا لقوات الشرطة بفضّ اعتصاماتهم، واعتقال أعدادٍ منهم، حتّى وصل عدد الطلبة المُحتجّين إلى أكثر من ألفي طالب معتقل؟… قد يصحّ هذا السؤال لو لم تكن شفيق من أصول مصرية، وتحمل الجنسية المصرية؛ إذ ربما عوَّل الطلاب على جنسيتها و(عروبتها) وتوقّعوا منها أن تنضمّ إليهم أو ألا تعارض احتجاجاتهم، وهو أضعف الإيمان، بسبب انتمائها الجغرافي والثقافي. لذلك، ربما يكون هذا الأمر الدافع للعودة إلى التفكّر في نظرية “الاستبداد الشرقي”، التي طُرحت قبل مئات السنين، بدءاً بأرسطو الذي افترض أنّ شعوب الشرق تميل إلى الاستبداد لأنّهم أكثر خنوعاً من غيرهم من الشعوب، مروراً بمنظّر الثورة الفرنسية جان جاك روسّو، الذي عزا الاستبداد إلى الدين، ثم المفكّر فريدريش هيغل الذي يردّه إلى النظام الأبوي القائم تاريخياً في الشرق، وصولاً إلى النظرية المادّية عبر كارل ماركس، الذي ربط بين الاستبداد ونمط الإنتاج الآسيوي، الذي يقوم على القسر. إلا أنّ نظرةً سريعةً إلى تاريخ الدول العربية الحديثة، والحركات الاجتماعية التي انطلقت قبل التحرّر من الاحتلال العثماني، يقول إنّ النزوع إلى الحرية لم يُفارق وجدان شعوب الشرق، والتي منها الشعوب العربية، التي وصلت إلى الاستقلال عن الاستعمار الغربي عبر انتفاضات وثورات ونضالات طويلة. غير أنّ التاريخ المعاصر يبين أنّ الاستعمار الجديد قد تولّى دعم الحكّام والأنظمة القائمة في المنطقة العربية، ودعم توجههم إلى الفردية والحكم الديكتاتوري لكي يضمن هيمنته وعدم وصول الشعوب إلى القدرة على بناء الديمقراطية بوصفها شرطاً طبيعياً لنموّ المجتمعات والاقتصادات في أيّ منطقة، وتحرّرها. ومن هنا، لا يمكننا إلا أن نقول إنّ نعمت شفيق ليست سوى إفراز غير مباشر لنزعة الهيمنة والتسلّط الغربية التي تحقّقت عبر ديكتاتوريات ساندت استبدادها ففرّخت أفراداً مُستبدّين، وهم أفراد تساعد ثقافتهم وتطور شخصياتهم في تخليصهم من تأثيرات الأنظمة، وثقافتها، وممارساتها، وقد لا تفعل، كما في مثال البروفيسورة شفيق.
المصدر: العربي الجديد
ليس بالضرورة أن يعبر هذا المقال عن رأي الموقع