منذ صدمة الحداثة مع مدافع الحملة الفرنسية على مصر، شكلت مسألة الحرية تاريخياً واحدة من شواغل الفكر المصري، والعربي، وجزءا من ثنائية التقدم، والتخلف، وخاصة منذ نهاية القرن التاسع عشر وطيلة القرن الماضي، ولاتزال.
ربط بعضهم بين الحرية، وبين الاستقلال الوطني عن الكولونيالية على نحو ما تم لدى بعض المفكرين والسياسيين المصريين، والعرب. كان التحرر والاستقلال عن الكولونيالية البريطانية، مرتبطا بالدستور، والحكم النيابى التمثيلى في إطار الحركة القومية المصرية، مع حزبي الوفد، والأحرار الدستوريين. كان هذا الربط العضوي بين الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، وبين المسألة الدستورية، جزءًا من خطاب النخبة السياسية شبه الإقطاعية، شبه الرأسمالية آنذاك. من ثم كانت قضايا الحريات العامة والشخصية، أحد شواغل النخبة السياسية، والجماعة الثقافية شبه الليبرالية. بعض هذا الربط بين التحرر الوطنى، وحرية الفرد، وجد ظلًا له في حركات التحرر العربية إلا أن غالب النخبة السياسية المصرية كانت مصدرها الرئيس النخبة القانونية سواء من خريجي مدرسة الحقوق الفرنسية ، او من كلية الحقوق او من دارسي القانون والدكتوراة في فرنسا ، ومن ثم كان القانون الوضعي الحديث وانظمته الدستورية والسياسية والقانون الخاص هم من ابرز مداخل التحديث السلطوي للدولة ، والتنظيم الإداري والاجتماعي ، منذ مطلع النهضة المصرية والعربية ، ومن هنا كانوا جزءا عضويا من حياة الدولة الحديثة وادارتها، وأيضا الحركة القومية ، وركزوا علي الربط بين الحريات العامة والشخصية ، والدستور والأستقلال الوطني ، وخاصة بعد الأنتفاضة الوطنية العظمي 1919 ، ودستور1923 .
من هنا كان الخطاب حول الاستقلال، والسيادة الوطنية أحد فوائض الحركة القومية التي تمدد من بين اصلابها ليغدو أحد أبرز علامات حركة التحرر الوطنى العربية، إلا أن توظيفاته السياسية تمت منفصلة عن الحريات الشخصية ، من ثم كان الحديث عن الحرية للشعب، وقوى الشعب العامل في المرحلة الناصرية ، والميثاق الوطني – المستمد من التقليد السياسي السالزاري ، ومفهوم تحالف القوي الثورية المعادية للاستعمار الماوي ، وبعض الشعارات الوفدية الغائمة عن الأمة المصرية – ، ومن ثم فرضت القيود على حرية الفرد، والحق في المبادرة الشخصية، أو الجماعية في تشكيل أحزاب سياسية مستقلة، وحريات الرأي والتعبير تحت هذا المفهوم، وإخضاع أية محاولة للخروج على هذه القيود للمساءلة الجنائية . كان الفكر القانوني، هو أساس الفكر السياسى قبل نظام يوليو 1952، واستمر معها من قبل بعض الموالين لها، ومن ثم كانت أهم شواغله في ظل المرحلة شبه الليبرالية ، هو الحريات العامة السياسية، وعلى رأسها حرية الفكر والتعبير والنشر والصحافة، والحريات الشخصية من منظور المقاربة الدستورية الشكلانية تجاه الملك والمعتمد البريطاني، وامتد هذا التصور إلى القانون الجنائى، والإجراءات الجنائية، بوصفهما سياج لحرية الفرد إزاء الأجهزة الدولتين و الأمنية، ودعما لحقوق المتهم وإجراءات محاكمته. كان الطابع النخبوى الشكلاني هو سمت الجدل حول مسألة الحرية، ومن ثم لم تكن جزءًا أساسيا من شواغل العقل الجماهيرى شبه الجمعى، لا سيما الجموع الشعبية، التي كانت واقعه في دوائر الفقر وخطوطه وما وراءه، وأيضا الأمية بكافة أنماطها بما فيها امية القراءة، والكتابة. من ثم كان العقل الجماهيرى راسفًُ في قيود أنماط التدين الشعبى الوضعي، وموروثاته، وبعض من أساطيره الشعبية القدرية، والنزعة الجبرية التي تحيل المصير الإنساني المصرى والعربى إلى القدر والماورائيات، بقطع النظر عن مدى صدقية هذه الأساطير الشعبية، في ضوء الأصول والعقيدة الدينية المقدسة.
مرجع ذلك أن هذه النزعة الجبرية للماورائيات في التصورات الشعبية العربية -لا سيما في الأرياف والبوادى، وبعض الحضر المريف- ترتكز على قوة الاعتقاد في الطبيعة، والموروث الشعبى من التقاليد، والقيم، والعادات، على الرغم من التحولات الاجتماعية، إلا أن التصورات النقلية، الشعبية حول الدين لا تزال تتسم بالقوة والاستمرارية، مع الازدواجية بين الإيمان بها، والطقوس الاجتماعية حولها، وبين غالب السلوك الاجتماعى المناهض لها.
الحرية هنا تبدو مختلفة، ومُقنعة، وسط قيود التدين الشعبى، وأيضا المجال العام المحاصر سياسيا، وقانونيا في العالم العربى مابعد الأستقلال وإدي الآن، وأيضا المجال الخاص، وقيوده وقيوده القيمية وازدواجياته المتعددة مابين الخطاب اليومى، والسلوك الفعلى وخاصة منذ عقد الثمانينيات من القرن الماضي وإلي الآن .
الخطاب الشعبى الجماهيرى لا يأبه كثيرا بمساءلة الحرية، ودورها السياسى، والاجتماعى، وللحركية الفكرية، والسلوكية لها، في الإنتاج الاجتماعي على نحو ما يدور في الخطاب النخبوى للسياسيين المعارضين، أو “المثقفين”! مرجع ذلك أيضاً، المشاكل الاقتصادية، والاجتماعية للجماهير الغفيرة، وخاصة العسر الاقتصادى، والبطالة، والتضخم على نحو يكرس معه غالبهم اهتماماته ومصالحه على مواجهة ظروف ومشاكل الواقع المتفاقمة. في دول اليسر العربية، شكل الاستهلاك المكثف، والتشيوء الأنساني، سمت رئيس في مجتمعات ثرية، يسودها الاستهلاك المفرط ، وحرية الاستهلاك هي الأساس، وحرية السفر للسياحة الخارجية، ومن ثم تغيب عن بعضهم مسألة الحريات العامة والسياسية، إلا لبعض الأقليات كالشيعة في بعض البلدان، أو الأكراد، أو الأمازيغ، في مطالباتهم السياسية، والثقافية.. إلخ أو بعض الجماعات الإسلامية السياسية كالأخوان المسلمين والسلفيين.
يبدو من الأهمية بمكان النظر إلى مسألة الحرية ومقارباتها في العقل العربي النخبوي، تركيزه علي النماذج الليبرالية التمثيلية الغربية وغياب نظرات تاريخية وواقعية علي إمكانيات تطبيقها في الواقع الاجتماعى العربى -على تعددياته وخصوصياته-، في ظل إعاقات الواقع الموضوعي. أن اقلمة هذه النماذج، لا تزال تواجهها عقبات الثقافة الشعبية السائدة، ونزوعها القدرى والأبنية، والهياكل الاجتماعية التقليدية، كالقبيلة والعشيرة، والعائلات الممتدة، ومفاهيم الإجماع في الثقافة الدينية الرسمية. الأخطر مواريث الاستبداد الشرقى/ العربى، ومفاهيم الطاعة والأزعان، وسياسات القمع، التي تراكمت منذ مراحل ما قبل الكولونيالية، وما بعدها، واستمرت في ظل أنظمة الحكم الوطنية الشمولية، والتسلطية. هذا التراكم الاستبدادي لا يزال مسيطرًا علي الواقع الموضوعى، ويشكل عائق إزاء إيجاد تمثيلات مؤسسية فعالة لمسألة الحرية السياسية، والاجتماعية.
يتناسي الخطاب النخبوى حول مسألة الحرية، وفق التصورات الفلسفية والسياسية في النماذج الغربية- أن تجسيدات الحرية في عديد المجالات، وعلى رأسها حرية العقل والتدين والاعتقاد، مرجعها التمايزات التي حدثت بين الوضعى والميتاوضعي، وبين العقل الوضعى، والعقل الدينى، والدين والدولة، والأهم ميلاد الفردانية، والفرد ككائن اجتماعى وسياسى، ومشيئة وأرادة، وتحول التدين من الحالة الجماعية، الى التدين الفردى، وذلك بعزل الكنيسة عن الدولة وهو ما استغرق ثورات في العقل الغربي النخبوي والجمعي.
بعض العقل العربى السياسى سعياً وراء إستعارة المثال الليبرالي أن مسألة الحرية، وتطبيقاتها في النظم السياسية والاجتماعية الأوروبية والغربية تعود إلى التحولات الاقتصادية داخل هذه المجتمعات في ظل الرأسمالية الغربية، وتوحيد الأسواق والدول، وحركة القوميات، وبناء الدولة الأمة، والأهم التحول إلى التصنيع، والثورات الصناعية، الأولى والثانية وكرست الثالثة والرابعة -الحالية- عديد من تجسيدات الحرية على نحو بات يؤرق غالبُ العقل العربى النخبوى، والجماهيرى، بالنظر إلى حريات المرأة، والمثلية، وتحديد النوع الاجتماعى والتحولات الجنسية وزواج المثليين..إلخ، وذلك لأنها حريات ارتبطت بتطورات وتحولات هذه المجتمعات، وهو ما يتصادم مع العقائد والقيم السائدة في مجتمعاتنا، ولا يزال ينظر إليها بوصفها غير طبيعية، و”شاذة” في الوعى شبه الجمعى، وفى نظر الأنظمة القانونية العربية الوضعية، وأيضا في الوعى الدينى الاسلامى، والمسيحى -الأرثوذكسي-، بما في ذلك القيود الاجتماعية على أوضاع المرأة العربية، بقطع النظر عن النصوص الدستورية والقانونية التي أقرت هذه الحقوق من منظور المساواة بين المواطنين.
تأثر الخطاب العربى حول مسألة الحريات بالثنائيات المتضادة بين الدينى النقلى الموروث، وسراطاته المستقيمة، وبين مفهوم الحرية، وبين الحلال والحرام، وبين النص والعصر، وبين الإيمان والكفر. من هنا ظلت الثقافة الدينية الشعبية الوضعية والسرديات النقلية حول النص المقدس، والسنة النبوية المشرفة، أحد عوائق طرح مسألة الحرية في إطار تجديد الفكر الإسلامي وعلم الكلام إل قليلا من بعض المجددين من الأمام محمد عبده وبعض تلاميذه ، ومن ثم ساد الميلُ إلى أغفال تعقيدات الواقع الموضوعى، وموروثاته.
ظل خطاب الحرية في العقل السياسى السلطوى، محضُ شعارات تطرح في قلب هذه الخطابات الشعبوية، بينما الضوابط والقيود الثقيلة تحول دون أي تجسيدات سياسية، وتمثيلية جادة وفعالة لها، وتبدو غائية في الثقافة السياسية المسيطرة ، والتنشئة الاجتماعية، والمؤسسات السياسية الرسمية. وبدى جلياً التناقض مع تحول نظم رأسمالية الدولة الوطنية، إلي سياسات الأنفتاح والإصلاح الاقتصادى، ثم الرأسمالية النيوليبرالية، حيث سادت الشمولية والتسلطية السياسية ولم يحدث أي تحول في طبيعة النظم السياسية ، من حيث الانفتاح على التعددية السياسية والثقافية والحريات العامة والشخصية، وإنما تزايدت القيود القانونية والأمنية والدينية على الحريات العامة، وتضخمت قوانين العقوبات والإجراءات الجنائية في الدول العربية المختلفة، وأيضا في ظل عدم استقلالية السلطات القضائية، والتشريعية لصالح الدور المهمين للسلطات التنفيذية، ومحورها الحاكم الفرد عند قمة النظام السياسى ومراكز القوة حوله.
من هنا لا تزال هذه العوائق الهيكلية، بعيدة نسبيا عن بعض العقل السياسى العربى في تحليله لمسألة الحرية وتجسيداتها في غالب البلدان العربية.
ومن الملاحظ ايضاً، تراجع مقاربات العقل السياسى العربى وتحليلاته في الألفية الثانية، وعقديها الماضيين، ولا يزال ، وخاصة غياب دراسات ميدانية عن العقل النخبوى او دراسة بعض الشرائح الاجتماعية لمعرفة بعض العقل الجماهيرى، أو عقل الجماهير الغفيرة، في ظل ثورة وسائل التواصل الاجتماعى، وأثرها على عمليات اشتغال عقل الجموع الرقمية الغفيرة من كافة الفئات الاجتماعية. ( وللحديث بقية).
المصدر: الأهرام