منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة، تراجعت السياسة إلى أدنى مستوياتها. فمن ناحية، تحوّل القتل اليومي والتعذيب والتدمير الشامل إلى هدف إسرائيلي وحيد، تُسخَّر الموارد المالية والعسكرية والتكنولوجية والدعائية والدبلوماسية لتحقيقه والدفاع عنه ونفي تفاصيله ومفاعيله تارة أو تبريرها تارة أخرى. ومن الناحية المقابلة، صار الخلاص من الإعدام الفردي أو الجماعي الأمل الذي يتمسّك به المدنيون الفلسطينيون، والنفاذ من الاستئصال والدفاع عن الوجود ما يصبو إليه المقاتلون. وفي الحالتين، حالة القتل أو حالة السعي للإفلات منه، لا حيّز واسعاً للسياسة أو للخيارات السياسية وللبحث في تفاصيلها واحتمالاتها.
بموازاة ذلك، انتفت السياسة أيضاً على الصعيدين الرسميين الإقليمي والدولي، واستُبدلت بمساعٍ لتبادل أسرى ومعتقلين ورهائن وتفاوض لوقف مؤقت للنيران وإدخال مأكل ومشرب لمُجوّعين لا تصل العالم بهم سوى صور نكبتهم وأخبار موتهم وتغريبتهم الجديدة.
ولا يتخطى ما يُنقل من معلومات عن مباحثات حول مستقبل غزة بعد الحرب، واقتراحات شكل إدارتها وهويات المسؤولين عن الإدارة المحتملة، حدودَ الأفكار المكتبية والمقترحات البيروقراطية التقليدية البعيدة عن السياسة الميدانية ودينامياتها وحقائقها وموازين قواها، وعن القوانين والمؤسسات الدولية وما يفترض أن تضمنه قبل وخلال كل بحث سياسي للخروج من الأزمات والحروب والمذابح.
حتى إيران وحزب الله، الفاعلان المؤثران عادةً في مواضع تراجع السياسة أو فوضاها، يبدوان في حالة مراوحة لا سياسية بين حدّ من «واجب التضامن» العسكري والإعلامي مع حركة حماس أراداه منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر، وحدّ من الاستنزاف فُرض عليهما نتيجة الاستهدافات العسكرية الإسرائيلية لهما في لبنان وسوريا، في وقت لا يحمل المفاوضون والوسطاء إليهما سوى عروض وقف إطلاق نارٍ معزول عن شؤون المنطقة، أو تهديدات بمواجهة شاملة «يصعب منعها، أو وقفها إن اندلعت».
ولولا جنوب أفريقيا التي أعادت للقانون وللسياسات الدولية وللعلاقات بين الحكومات في العالم وفق المعاهدات والاتفاقات بعض اعتبارها من خلال الدعوى التي تقدّمت بها أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، وجلسات المحاكمة وما حملته من مداخلات ومحاججات، لأمكن القول إن العالم بأسره بات يخلو من أي فكر أو فعل سياسي في مواجهة الحرب الدائرة في غزة منذ ستة أشهر.
الميدان الوحيد اليوم هو ميدان الحرب
على هذا الأساس، أساس غياب السياسة أو انتفائها في مواجهة الإبادة المتواصلة، صار النقدُ السياسي، أي نقدٍ، لوقائع ما يجري ولثقافة القائمين به ـ على مشروعيّته والحقّ بممارسته – محدوداً ومعدوم الأثر أو التأثير على المعنيّين بقراءته أو التداول فيه، وعلى الجمهور الواسع المتابع له. فنقد الدول الغربية الداعمة لإسرائيل في جرائمها مثلاً، رغم أهميته في المواجهة الإعلامية والثقافية (في الدول الغربية تحديداً)، لا طائل في السياسة المباشرة والآنية منه إن لم يُتبع بالحكي عن العقاب وعن الإجراءات القانونية الزاجرة القادرة وحدها على وقف هذا الدعم أو تقليصه. ونقد حماس في ثقافتها ومسلكها وتحالفاتها وحساباتها لا مؤدّى له طالما أن الميدان الوحيد اليوم هو ميدان الحرب حيث يُقتل أهل غزة بكافة شرائحهم وأعمارهم وخلفيّاتهم.
إضافة إلى ذلك، ثمة في هذا النقد، رغم محدودية أثره السياسي كما أسلفنا، ما بات يعكس أيضاً محدودية خياله السياسي وقدرة أصحابه على الخروج من اصطفافات متقادمة، في لحظة استثنائية الخطورة، كلحظة الإبادة. يسري الأمر في منطقتنا تحديداً، وهي ما يعنينا هنا، على ما اصطُلح على تسميتهم بالممانعين وعلى معظم خصومهم.
فالأوائل لم يغادروا خطاب التبسيط بلغة انتصارية تبدو وكأنها تحتفي بالحرب والصراع، يتجاهلون مآسي الأفراد والجماعات ويضعون كلّ من لا يوافق على ذرائعهم في سلة واحدة. لا حضور لغير بديهيات وحتميات في ما يقولون ولا اعتبار واحداً للنتائج المترتّبة عن الإبادة وعن تحويل مناطق واسعة في غزة لمناطق غير قابلة للحياة أو لعودة السكان قبل فترة طويلة، وهو واحد من مرامي إسرائيل في هذه الحرب، وقد بات شبه متحقّق.
والثانيون، في أكثريّتهم، ما زالوا أيضاً يكرّرون نقدهم إياه لإيران وحزب الله وحماس والحوثيّين، مراوحين بين هجاء مألوف ومجترّ ومقارنات لا طائل منها. وحتى حين يكون نقدهم محقاً، فجدواه في السياسة غير قائمة. فماذا ينفع القول برداءة تدبير حماس وسوء تحالفها الإيراني، حين تقتل إسرائيل ما معدّله 200 فلسطيني كل يوم منذ 180 يوماً؟ وما الفعل السياسي الممكن بعد هذا القول في مرحلة استمرار الإبادة؟ وما الفائدة من المزايدة على حزب الله والتساؤل عن صواريخه، في وقت يخشى أكثرية اللبنانيين أن تجتاح الحرب بلدهم المنهك نتيجة النهب والإفلاس وتصدّع الدولة ومؤسساتها (وهيمنة حزب الله ذاته)؟
غياب السياسة وبؤس المُتداول
يؤسس غياب السياسة وبؤس المُتداول وتكراره بذريعتها اليوم إذن، ومثله تهافت النقد والنقد المضاد المسقطين من حساباتهما إمكانية تبدّل الأولويات وفق الأحداث وخصائص الحقبات الزمنية، لمرحلة شديدة الصعوبة في المنطقة العربية بأكملها. فلا في فلسطين ولا في لبنان وسوريا والعراق والأردن واليمن، وهي جميعها بلاد مأزومة أو ممزّقة أو محتلة، يوجد أفق تحرّر وطني أو فرص استقرار وتحوّل سياسي تلي الحرب وتتعامل مع واقع غزة وواقع البلدان المحيطة من بعدها. ولا في الدول التي طبّعت مؤخراً مع إسرائيل أو المقبلة رغم الإبادة على تطبيع مشروط معها، توجد ثقافة بديلة وممارسات يمكن التعويل عليها لتغيير مسالك العنف والاحتلال والعدمية.
وهذا كلّه يعني أن شروط استدامة الانقسامات العنيفة وأنظمة القمع وتياراته قائمة، وأن حرب الإبادة في غزة بقدر ما سيّست أجيالاً من الناس (حول العالم) رفضاً للاحتلال والإجرام والعنصرية وازدواجية المعايير، بقدر ما ساهمت أيضاً في تراجع السياسة أو ربّما ظهّرت تردّي الكثير من جوانبها ومفرداتها، مؤقّتاً على الأقل، في مناطق عديدة وعلى مستويات حكومية وإعلامية مختلفة…
*كاتب وأكاديمي لبناني
المصدر: القدس العربي