من المؤكد أنّ موجات الإصلاح في العالم العربي، التي ارتبطت بالشعارات الضخمة وتحدثت دائماً عن ” اللحظة التاريخية ” و ” الإصلاح الشامل “، كلها لا تعبِّر عن جوهر مستقر أو فكر واضح، كما أنّ عملية الإصلاح لم تتم أبداً بآلية تنفيذ مستمرة وفقاً لجدول زمني محدد، بل وجدت الحكومات العربية مبررات دائمة في التأجيل أحياناً والنكوص أحياناً أخرى بدعوى الوضع الإقليمي والمخاطر في المنطقة، فتأجلت كل البرامج الجادة لتطوير التعليم والارتقاء بالثقافة وتوطين التكنولوجيا ودمقرطة الحياة السياسية، وحلَّت بديلة عنها المواقف المظهرية والخطط العاجلة واسترضاء العامة، بالنفاق تارة وبتزييف الحقائق تارة أخرى.
وفي الواقع ترتكز عملية الإصلاح الجادة على المؤسسات والسياسات، ثم مناخ الثقة الذي تصنعه العلاقة بين المؤسسة والسياسة في إطار حكم ديموقراطي يعبّر عن إرادة الشعوب وتطلعات الأمم. والأمر الملاحظ في عالمنا العربي أنّ الحاكم الفرد أقوى من المؤسسة، بينما المطلوب هو العكس تماماً لأنّ المؤسسة باقية بينما الحاكم الفرد متغيّر، إلا أنّ التجربة العربية المعاصرة طبعت في الأذهان دائماً مفهوم التركيز على الحاكم الفرد وتضخيم دوره والإقلال من قيمة المؤسسة، وجعلها مطية له وأداة لتحقيق طموحاته وأطماعه بغض النظر عن المصلحة العامة. وإذا كنا نفكر في الإصلاح، فإننا يجب أن نعي هذه النقطة جيداً لأنها نقطة محورية وعلامة فارقة بين التأخر والتقدم، فالدولة تقوم على المؤسسات، لا على بضعة أفراد، والدولة القوية تتميز بوجود مؤسسات راسخة ذات تقاليد ثابتة لا تتأثر بتغيير الأفراد أو تناوب القيادات.
أما السياسات التي تصب في خانة القرارات الأساسية التي تتخذها الدولة في المواقف الوطنية والتحولات المصيرية، فإنّ نجاحها مرتبط بكفاءة المؤسسات. وهنا تبرز أهمية مناخ الثقة الذي يوفق بين التقاليد المستقرة للمؤسسات والمرونة المطلوبة في السياسات، وذلك لا يمكن أن يتمَّ إلا في مناخ الثقة الذي لا يتحقق بغير الحريات الواسعة والمشاركة السياسية القوية والطرح المستمر للأفكار والمبادرات التي تحيل الدول العربية إلى قوة فاعلة ولا تجعلها عالة على العصر.
ومن المفيد أن نشير هنا إلى ملاحظتين: أولاهما، أنّ الحديث عن الإصلاح تحوَّل لدينا إلى ما يمكن تسميته بـ ” موضة سياسية ” فأصبح يتحدث عنه الجميع، ربما من دون مضمون حقيقي أو اقتناع كامل. كذلك فإنّ الإصلاح أصبح أمراً تنظر إليه الأطراف المختلفة كل من زاويته، وجرت عملية تحميل للمسؤولية من كل طرف على عاتق الطرف الآخر وكادت تتوه الحقيقة إلى حد كبير، كما تبنَّت الإصلاح ذاته قوى هي أبعد ما تكون عنه ولكنها تتاجر فقط به. وثانيتهما، أنّ هناك توجساً من تعبير الإصلاح، فالنظم ترى فيه إشارة سلبية إليها بينما ترى فيه أوساط واسعة من العامة احتمالاً للمساس بهويتها، خصوصاً عندما جرى حديث متكرر حول الإصلاح الثقافي بل وتجديد الخطاب الديني أيضاً.
وكي لا يبقى هدف الإصلاح شعاراً غائماً كغيره من الشعارات، فلا بدَّ أن تتوافر فيه الشروط الأربعة التالية:
1 ـ التأسيس لحياة ديموقراطية دستورية تتجاوز حكم التسلط وتكون قابلة للتطور حسب حاجة تقدم المجتمع وتطلعاته، وحسب المعايير العامة التي كرَّستها المواثيق العالمية.
2 ـ تطوير وتطهير الجهاز الحكومي وسائر الإدارات بما يتلاءم ومنطق دولة القانون والمؤسسات، فالديمقراطية وسيلة غايتها الحكومة الرشيدة.
3 ـ أن يكون في مقدمة واجبات هذه الحكومة الرشيدة السعي لتحقيق العدالة الاجتماعية بين المواطنين، بما يتجاوز معسكري الغنى الفاحش والفقر المدقع، ويتفادى تفجير الصراعات الأهلية والنزعات المتطرفة وانقسام الوطن بين من يملكون ومن لا يملكون.
4 ـ التأسيس لمؤسسات مجتمع مدني حرة في ضميرها ورأيها ومسلكها القانوني، قادرة على الخروج من بوتقة العصبيات التقليدية من تكوينات قبلية وطائفية ما قبل وطنية، في إطار من الفكر المنفتح والحوار المسؤول.
إنّ تأجيل عمليات الإصلاح الداخلي للمجتمعات العربية، بحجة القضايا الكبرى والمعارك القومية وبدعاوى مثل ” لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ” وغيرها، إن لم يكن سذاجة وتبسيطاً مخلاً، فهو موقف يصبُّ – عملياً – في خانة المستفيدين والمنتفعين من تأجيل الإصلاح وتأخيره، وهم حرَّاس الفساد المقيم الذين يتمنون مثل هذه الانشغالات الشعبية بالمعارك الكبرى بل وينفخون في نارها ليخلو لهم جو العبث بالمقدرات العامة، ملتقين في ذلك موضوعياً، ودون الحاجة إلى تفسير تآمري، مع مختلف القوى المعادية للأمة التي تريد لها أن تستنزف قواها في معارك بعيدة، خارجة عن إرادتها، ونائية عن متناول يدها، لئلا يتنامى أنموذج عربي فعَّال وملموس، قادر على التعاطي المجدي معها في الأرض العربية.
وطبيعي أنّ أيَّ مشروع للإصلاح، بعد عقود من الجمود، لا يملك عصاً سحرية وحلولاً عاجلة لكل شيء، وإنما هو البداية الصحيحة، والخطوة التاريخية السليمة، لفتح الأبواب وتمهيد الطريق لمسيرة الإصلاح والتغيير. المهم أن يبدأ التوجه الصحيح والمخلص نحو هدف الإصلاح الشامل من دون تأخير وتسويف، وبعدها فهي مسؤولية الوطن كله ومختلف قواه في نقل المشروع الإصلاحي، في تطوره الطبيعي، إلى آفاقه المتوافق عليها.
إنّ دوائر الحكم المغلقة خلقت من السلطة في العالم العربي مركز جاذبية لبعض عناصر الولاء وعنصر طرد لبعض عناصر الثقافة، ما أدى إلى هوَّة بين المنتمين إلى النظم والأغلبية الصامتة التي اختارت اللامبالاة طريقاً، وثرثرة النقد بديلاً من التحرك السياسي أو العمل العام.
إنّ حيوية النظم مستمدة – أساساً – من تدفُّق الدماء الجديدة وجذب العناصر المتميزة والحملات اليقظة ضد الفساد المالي والإداري، بل والسياسي أيضاً، لذلك فإنّ النظم التي تعتمد على الدوائر المغلقة لا تخرج منها العناصر المترهلة بسهولة ولا تدخل إليها العناصر القادرة إلا بصعوبة أيضاً، بحيث تبدو في النهاية مثل البحيرات الراكدة التي لا تتدفق إليها مياه من المنبع ولا تخرج منها مياه إلى المصب. ومن هنا الحاجة إلى إعادة الصياغة والبناء والتركيب للحياة والمجتمعات العربية على أسس جديدة باستثمار الطاقات المعطَّلة والانخراط في إعمال مفهوم الجدوى للمفاهيم والقيم والنظم، التي تثمر معرفة وثروة أو قدرة وقوة، بها نحسِّن السمعة ونستعيد الكرامة المهدورة.
إنّ المتابع لما يجري في الواقع العربي سيجد مجموعة من القضايا بدأت تشغل الرأي العام العربي، والتي ستؤثر بلا شك على طبيعة الثقافة السياسية السائدة لديه. فقضية الحريات العامة والفردية أصبحت تشغل حيِّزاً كبيراً من السجال اليومي، وتجاوزت المسألة المثقف والسياسي إلى الفرد العادي. كما لا يوجد خلاف يذكر، داخل صفوف النخب العربية، حول رفض استمرار الأوضاع على ما هي عليه، والاقتناع الكامل بأنّ استمرارها سيفضي إلى حالة من الفوضى الشاملة، قد تنتهي بتحوُّل العالم العربي كلِّه إلى كيانات ما قبل وطنية تسيطر عليها قوى الهيمنة العالمية.
ومما لا شك فيه أنّ المسؤول الأول عن وضع المسألة في المأزق الذي تعرفه هو النظم الاستبدادية نفسها، التي قطعت على المجتمعات طرق التحوُّل السلمي وحرمتها من جميع الوسائل السياسية التي تسمح لها بالتعبير عن إرادتها بحرية. وبقدر ما أصبحت هذه الأنظمة تساوم، هي نفسها، على برنامجها الوطني وتقوم بتقديم التنازلات الواحدة بعد الأخرى للحفاظ على مواقعها أو للبقاء في السلطة فستفقد بشكل أكبر مشروعيتها وتحوِّل خطابها الوطني إلى عملية ابتزاز بالوطنية تتناقض مع حقيقة الممارسة اليومية.
كما توجد مشكلة كبرى في هذا السياق، إذ أنّ منظومة الإصلاح الشامل لم تعد قابلة للجدل، ومع ذلك فهناك من يرى أنّ الإصلاح المطلوب هو مجرد خطوات وإجراءات سطحية يجب ألا تؤثر في المنظومة الكلية القائمة في المجتمع، ومن ثم يصطنع إشكاليات وهمية من قبيل الاكتفاء بالإصلاح في المجال الاقتصادي وتأجيل أي إصلاح سياسي، أو إثارة مشكلة وهمية بين قابلية المجتمعات للرضا ببعض الحريات دون التداول السلمي للسلطة، باعتبار أنّ المجتمعات العربية ليست ناضجة بما فيه الكفاية لكي تقوم على شؤون نفسها بكل كياسة وحكمة. ومثل هؤلاء الذين لا يدركون حجم التطور الحاصل في الكون، يظنون أنهم قادرون على وقف حركة التاريخ، أو تعليب بلدانهم ومجتمعاتهم في عبوات غير قابلة للفتح. وهذا هو الوهم الكبير والخطير الذي يجب الوقوف ضده، لأنه يحمل بذور الانفجار الاجتماعي غير المرغوب. وهنا علينا أن ندرك جميعاً أنّ أي إصلاح شامل له ثمن يجب على المجتمع بأسره أن يتقبل دفعه، فما من مجتمع بشري تطور، في مرحلة ما من مراحل وجوده، إلا وكان هناك كم من التضحيات والالتزامات واجبة الدفع.
ويبدو أنّ ثمة أربع ركائز للتغيير، حسب المرحوم الدكتور أحمد زويل، من شأنها أن تدعم نهضة تاريخية ملحَّة لتغيير المجرى الحالي للأمور: أولاها، إقامة نظام سياسي جديد، يستند في جوهره إلى دستور يحدد المبادئ الديمقراطية لحقوق الإنسان وحرية التعبير والحكم من خلال انتخابات قائمة على المنافسة. وثانيتها، تطبيق سيادة القانون في الممارسة على كل فرد، بغض النظر عن طبقته أو طائفته أو قوميته أو جنسه. وثالثتها، إعادة النظر في الأساليب المستخدمة في التعليم والممارسات الثقافية والبحث العلمي ومراجعتها وضخ حياة جديدة فيها، إذ ينبغي أن يكون الهدف ترويج التفكير النقدي ونظام قيم قائم على التحليل المنطقي والانضباط والعمل الجماعي. ورابعتها، ضرورة إصلاح الإعلام العربي، بهدف تحفيز العقول وتشجيع التفكير النقدي من أجل إطلاق مناقشات وحوارات متحضرة.
وفي خضم البحث عن طرق الإصلاح وآفاقه في المنطقة العربية، بات من المعتاد الحديث عن ” الكتلة التاريخية “. وقد أمل فريق واسع من المثقفين وأهل الرأي والناشطين السياسيين العرب، ومن أبرزهم الدكتور خير الدين حسيب والدكتور رغيد الصلح، أن تقوم هذه الكتلة مقام الفاعل الإصلاحي، وقاطرة الإصلاح الديمقراطي تحديداً. كذلك تطلَّع الذين دعوا إلى تكوينها إلى تنشيط دور المثقفين في الحياة العامة العربية بعدما تعرض هؤلاء، وخاصة المثقفين النقديين، إلى الإقصاء والتهميش خلال العقود الماضية تحت شتى الذرائع والاعتبارات. ولا شك أنّ للمثقفين دوراً أساسياً في بناء هذه الكتلة، وفي صياغة أساسها الفكري لتحالف فئات اجتماعية وفكرية وسياسية متعددة بغرض الوصول إلى التغيير السياسي المنشود.
وفي سياق كل ذلك، لا بدَّ من طرح تساؤل مبدئي حول مدى مشروعية التدخل الخارجي لتغيير الأوضاع الداخلية في منطقة معينة أو دولة بذاتها حتى لو جاء ذلك تحت مظلة إنسانية براقة ودعاوى تحديثية مطلوبة، خصوصاً أنّ هذا الأمر يرتبط دائماً بشعارات جذابة. فالظاهرة الاستعمارية في أوج سيطرتها وشدة سطوتها رفعت لافتات شهيرة مثل ” تحضير المجتمعات ” و ” ترقية الأمم “، بينما كان واقع الأمر يشير إلى التركيز على استنزاف ثروات الشعوب وتوظيف المواقع الجغرافية للدول التي يجري احتلالها في خدمة أهداف القوى الكبرى التي تتشدق بالمبادئ والقيم والأخلاق. ومع ذلك كله فلنعترف أنّ العالم اختلف وأنّ الدنيا تغيّرت وأنّ فلسفة العولمة حملت معها أفكاراً جديدة طالت القانون الدولي المعاصر فظهر ” القانون الدولي الإنساني “، وهو الذي يتيح التدخل في الشؤون الداخلية للدول لأسباب أخلاقية أو قانونية، بدءاً من الحفاظ على الأقليات ورعاية حقوق الإنسان مروراً بحماية المدنيين وصولاً إلى دعم الديمقراطية، وهو أمر جرى استخدامه على نطاق كبير في السنوات الأخيرة حتى أصبح يبدو كالحق الذي يراد به باطل.
ومما لا شك فيه أنّ التغيير يكون أضعف إثماراً بقدر يتناسب مع دور الفاعلين الخارجيين فيه، وينبغي ألا تختلط هذه المسألة بمسألة القدرة على إحداث التغيير: قد يكون الخارج هو الأقدر، لكن توطين التغيير هو الذي يضمن استدامته.
وهكذا، يبدو أنّ خريف الدكتاتورية في المنطقة العربية قد أزفَّ وربيع الديمقراطية يطرق وبشدة أبواب كثيرة مغلقة، في المنطقة العربية، والتي كما يبدو أن أوان افتتاحها قد اقترب. ومن ناحية أخرى فإنّ عملية التحوُّل، وإن بدت استجابة لدعوات وضغوطات خارجية، إلا أنها تبقى تمثل ضرورة تاريخية لدخول العصر. إنّ المنطقة العربية لا تستطيع أن تكون المنطقة الوحيدة في العالم العاصية للتحول الديمقراطي، وأن تكون الواحة الوحيدة غير القادرة على التكيُّف مع متطلبات الإصلاح.
وليس مطلوباً منّا أن نبقى كما نحن اليوم، فذلك ليس تهميشاً لنا فحسب، بل عزلنا وإنهاؤنا، بل علينا التغيير لمزاولة تفكيرنا على حلبة الحياة القادمة. والتغيير صعب، لكن من السهولة أن يبدأ من حيث يقبل أي واحد منَّا بالآخر.