في نقد وثيقة “حماس”

أسعد قطّان

لقد كُتب وقيل الكثير عن وثيقة حركة «حماس» بعنوان «هذه روايتنا عن طوفان الأقصى»، التي صدرت قبل بضعة أيّام بالعربيّة والإنكليزيّة. قيل إنّ الوثيقة أتت متأخّرة، وهذا صحيح. وقيل إنّها في قراءتها للقضيّة الفلسطينيّة تفتقر إلى البعد العربيّ، ولعلّ هذا من عيوبها الأساسيّة. لكنّ الأكيد، في المقابل، أنّ هذه الوثيقة تبذل جهداً لا يستهان به للاقتراب من منطق المواثيق الدوليّة مع تشديدها على حقّ الشعب الفلسطينيّ في الدفاع عن نفسه واللجوء إلى الوسائل المتاحة كلّها سعياً إلى استرداد أرضه السليبة. كذلك فإنّ هذه الوثيقة تقدّم سرديّةً تختلف عن السرديّة الإسرائيليّة بالنسبة إلى ما حصل يوم السابع من أكتوبر مشدّدةًً على أنّ مقاتلي «حماس» لم يقتلوا أطفالاً ولا اغتصبوا نساءً، حتّى إنّها تعزو قتل معظم المدنيّين إلى إجراءات قام بها الجيش الإسرائيليّ ذاته، ولا سيّما مسارعته إلى تصفية هؤلاء لئلاّ يقعوا في الأسر. ولئن كانت الوثيقة لا تستبعد حصول بعض الأخطاء على يد مقاتلي «حماس»، إلّا أنّها تتجنّب توصيف هذه الأخطاء وتسعى، على وجه العموم، إلى التقليل من شأنها.
في المقابل، إنّ إحدى أبرز هنات هذه الوثيقة تقوم في طريقة تحديد حركة «حماس» لذاتها. فهي تعتبر ذاتها «حركة تحرّر وطنيّ ذات فكر إسلاميّ وسطيّ معتدل»، وتتناسى أنّها، بما لا يقبل الجدل، امتداد لأحد تيّارات الإسلام السياسيّ الذي يمثّله الإخوان المسلمون. هل يمكن إطلاق صفة الوسطيّة على ما حاول هؤلاء الإخوان القيام به، في غير بلد عربيّ، من أسلمة للمجتمع؟ وكيف تنسجم هذه المحاولات، التي هي في صلب المنظومة الإيديولوجيّة الإخوانيّة، مع ما تدّعيه حركة «حماس» لذاتها في الوثيقة من أنّها «ترفض الإكراه الدينيّ؛ وترفض اضطهاد أيّ إنسان أو الانتقاص من حقوقه على أساس قوميّ أو دينيّ أو طائفيّ». هل اجتهد الإخوان المسلمون، حين توّلوا مقاليد الحكم في مصر مثلاً، في سبيل أن ينال المصريّون الأقباط حقوقهم كاملةً، لا بوصفهم أقباطاً، بل بوصفهم مواطنين؟ وهل رفضُ الإكراه الدينيّ ينسحب على ما يُعرف بالردّة في أحكام الشريعة الإسلاميّة، أم ينطبق فقط على عدم فرض الإسلام على غير المسلمين؟ بكلمات أخرى: هل تقبل حركة «حماس» حرّيّة الضمير كاملةً غير منقوصة؟ وإذا فعلت، كيف تتحوّل طبيعة علاقتها بالتيّار الإخوانيّ؟
تؤكّد الوثيقة التي نحن في صددها، عن حقّ، أنّ مشكلة الفلسطينيّين ليست مع اليهود واليهوديّة، بل مع المشروع الصهيونيّ. فالصهاينة «هم الذين يتبنّون دعاوى دينيّة، ويُصرّون على فرض الطبيعة اليهوديّة لإسرائيل بناءً على خلفيّات دينيّة وقوميّة». ثمّ تخلص إلى أنّ «إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تقوم على أساس دينيّ، فتمنح الجنسيّة لكلّ يهوديّ في العالم، وتهجِّر أهل البلاد الأصليّين». كما أنّ الوثيقة تتكتّم عن علاقة الحركة التي صاغتها بالتيّار الإخوانيّ في المدى العربيّ والعالم، كذلك هي لا تنبس بكلمة واحدة تتّصل بعلاقتها الوطيدة بنظام الملالي في إيران. وإيران، بحسب المنظومة الإيديولوجيّة التي تحكمها منذ العام ١٩٧٩، دولة دينيّة من رأسها إلى أخمص قدميها. تنتقد حركة «حماس» دولة إسرائيل على استنادها إلى العقيدة الإثنو-دينيّة. وتتجاهل أنّ دولة الملالي التي دعمتها وسلّحتها وزوّدتها بما مكّنها من القيام بعمليّة «طوفان الأقصى»، وربّما حدّدت التوقيت أيضاً، لا تقلّ دينيّةً عن دولة إسرائيل، وهي تمارس التمييز الإثنيّ ضدّ غير جماعة من مواطنيها لا تنتمي إلى القوميّة الفارسيّة. فإذا كانت إسرائيل، في منطقتنا، تشكّل وجه العملة التي عنوانها الخلط بين الدولة والإيديولوجيا الدينيّة، فإنّ دولة الملالي هي الوجه الآخر لهذه العملة.
أخيراً، تعرّج وثيقة «هذه روايتنا عن طوفان الأقصى» على المذبحة التي تعرّض لها اليهود في أوروبّا على يد النازيّين: «انطلاقاً من قناعاتنا وقيمنا الدينيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة رفضنا ما تعرّض له اليهود من جرائم واضطهاد من قبل ألمانيا النازيّة». ثمّ تنتقل إلى الاعتبار أنّ المشكلة اليهوديّة «في جوهرها مشكلة أوروبيّة. أمّا بيئتنا العربيّة والإسلاميّة، فكانت عبر التاريخ ملاذاً آمناً لليهود ولكلّ أصحاب الديانات والقوميّات الأخرى، ونموذجاً للتعايش والتفاعل الحضاريّ والحرّيّات الدينيّة». ربّما تكون القضيّة اليهوديّة مشكلةً أوروبيّةً بالفعل تحكّمت فيها، عبر العصور، عوامل دينيّة واقتصاديّة بالدرجة الأولى. لكن أن تصوَّر البيئة العربيّة والإسلاميّة على أنّها كانت، عبر التاريخ، نموذجاً للحرّيّات الدينيّة، فهذا يحيل على جهل الذين صاغوا الوثيقة بكثير من المعطيات التاريخيّة وسعيهم إلى تقديم قراءة للتاريخ أقلّ ما يقال فيها إنّها تعميميّة وتفتقر إلى الدقّة. الخطأ الآخر الذي تقع فيه الوثيقة هنا هو الركون إلى قراءة استقطابيّة للعلاقات بين الشرق والغرب، وتحديداً بين أوروبّا والعالم العربيّ والإسلاميّ. وهي إيّاها الاستقطابيّة التي يقع فيها غلاة المفكّرين في الغرب، حتّى إنّ بعضهم بات يدعو اليوم إلى طرد المسلمين من أوروبّا بحجّة الاختلاف الفاضح بين حضارتها الإنسانيّة «المتقدّمة» وحضارة المسلمين «الرجعيّة». ومن ثمّ، تتبنّى الوثيقة، من حيث يعي كتّابها أو لا يعون، مقاربةً ثنائيّةً (dualiste) للعلاقات بين الشرق والغرب تردّد صدى إمّا نظريّة التفوّق الغربيّ وإمّا الشعور بالاستعلاء الذي يرشح من القول بوجود دار للإسلام ودار للحرب في الشريعة الإسلاميّة.
ربّما أحسن كتّاب وثيقة «هذه روايتنا عن طوفان الأقصى» الدفاع عن القضيّة الفلسطينيّة في مواضع كثيرة، ولا سيّما عبر وضع عمليّة السابع من أكتوبر في سياق ما تعرّض له الشعب الفلسطينيّ من ظلم منذ زمن الانتداب البريطانيّ. لكنّهم، في مواضع أخرى، أهملوا السياق، وأخطأوا الهدف، ووقعوا في قراءات تعميميّة وغير دقيقة للتاريخ. والحقّ أنّ التعاطف مع قضيّة العرب الأولى لا يُبطل الحسّ النقديّ، ولا يلغي الدعوة إلى احترام القرّاء، ولا سيّما عقولهم.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. قراءة موضوعية لوثيقة حماس، وإن أتت متأخّرة بوضع تبريرات طوفان الاقصى، إفتقدت بقراءتها للقضيّة الفلسطينيّة للبعد العربيّ وركزت على السردية التريخية وفق رؤيتها، وأنّ مشكلة الفلسطينيّين ليست مع اليهود واليهوديّة، بل مع المشروع الصهيونيّ، وحقّ الشعب الفلسطينيّ بالدفاع عن نفسه واللجوء للوسائل المتاحة لاسترداد أرضه السليبة، ستظل الحركة جزء من الإسلام السياسي بسلبياته وإيجابياته.

زر الذهاب إلى الأعلى