عندما نسمع المسؤولين الأميركيين يتحدثون في الأمر، نستنتج أن خطر تحول الحرب في أوكرانيا إلى تصعيد نووي ضئيل. وقال المتحدث باسم البيت الأبيض جون كيربي في يناير (كانون الثاني) الماضي، “ليس لدينا أي مؤشر إلى أن للسيد بوتين نية في استخدام أسلحة الدمار الشامل – ناهيك بالسلاح النووي”. وفي جلسة استماع بمجلس الشيوخ الأميركي في مطلع مايو (أيار)، ذكرت مديرة الاستخبارات الوطنية أفريل هاينس أن من “غير المرجح أبداً” قيام روسيا باستخدام ترسانتها النووية. صحيح أن مدير الـ”سي آي أي” ويليام بيرنز صرح خلال خطاب في فبراير (شباط) بأنه يجب على الولايات المتحدة أخذ قعقعة بوتين النووية على محمل الجد. وتابع قائلاً إن الهدف من هذه القعقعة “هو تخويفنا، وتخويف حلفائنا الأوروبيين والأوكرانيين أيضاً”. وهي لم تأت كي تشير إلى أن روسيا تفكر جدياً باستخدام أسلحتها النووية.
الشكوك الأميركية هذه مفهومة إلى حد ما. فنشوب تلك الحرب أثار مخاوف من صراع نووي مباشر بين الغرب وروسيا. ومرحلة التكهنات المحمومة هذه قطعت. فالحرب منذ ذلك الحين استقرت في مسار مسدود طاحن – لكنه تقليدي. وللتأكيد هنا، ما زال المسؤولون الأميركيون متخوفين من احتمال استخدام روسيا أسلحة نووية تكتيكية في أرض المعركة. وقد أعرب الرئيس الأميركي جو بايدن في يونيو (حزيران) الماضي عن قلقه بهذا الخصوص قائلاً، “أنا متخوف من قيام بوتين باستخدام أسلحة نووية تكتيكية”. فالخطر، وفق ما تابع “حقيقي”، لكن لا يبدو أن المسؤولين (الأميركيين) مقتنعون بأن الحرب في أوكرانيا ستقود روسيا إلى استخدام ترسانتها النووية ضد دولة من دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مهما بلغ الغضب الروسي تجاه الغرب بسبب دعمه أوكرانيا.
فذاك يمثل غلطة. والمسؤولون الأميركيون يقرأون الأمر على ضوء تجارب الماضي، إذ من غير المرجح أبداً أن يقوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الواقع باستخدام الأسلحة النووية في أرض المعركة بأوكرانيا، لكن من المحتمل جداً أن يلجأ إلى استخدام إحداها ضد الناتو. فبعكس الغرب، قد لا يخشى بوتين من مواجهة نووية، إذ إنه على دراية جيدة بالترسانة النووية الروسية وبمبادئ الردع النووي، وربما يرى نفسه قادراً بطريقة استثنائية على خوض أزمة نووية، كما أن بوتين ثابر على نحو ملحوظ في القول إن روسيا مستعدة لاستخدام الأسلحة النووية ضد الناتو للدفاع عن مصالحها في أوكرانيا. حتى إنه قبل ثماني سنوات، وفي مقابلة تلفزيونية أجريت بعد عام من اجتياح روسيا للقرم، كشف عن أنه كان مستعداً لوضع القوات النووية الروسية في حالة استنفار لمنع تدخل أي قوات غربية إزاء احتلال موسكو شبه الجزيرة المذكورة.
استخدام الأسلحة النووية الروسية ليس وشيكاً، لكن إن قام بوتين بتصعيد الحرب، عبر مهاجمة الناتو بأسلحة تقليدية مثلاً، فيرجح من الرئيس الروسي أن يتحرك بإيقاع سريع جداً كي لا يمنح الولايات المتحدة فرصة للمناورة خارج نطاق الأزمة، إذ إن واشنطن ستجد صعوبة في ردع الكرملين وهو يقوم بخطوة جريئة كهذه، إضافة إلى أن أوكرانيا هي محور طموحات الكرملين – وثانوية للغاية بالنسبة إلى الولايات المتحدة – مما يبعد بوتين من تصديق التهديدات الأميركية. فالأخير بنهاية المطاف سيتوقع من الولايات المتحدة التراجع قبل التورط بأي نزاع نووي على أرض بعيدة جداً منها.
في المقابل، ولتلافي الأسوأ، على الولايات المتحدة أن تجد طرقاً جديدة لمنع روسيا من استخدام ترسانتها (النووية). عليها أن تقنع مسؤولي هذا البلد، بمن فيهم قياديو السلك العسكري، بالإقدام على عرقلة وتقويض القرارات التي قد تؤدي إلى هجوم نووي. عليها أن تقنع أفراد النخبة الروسية أن بوسع بلدهم التنازل في أوكرانيا من دون تكبد هزيمة كارثية. وعليها أن تحشد دولاً أخرى، خصوصاً الدول المحايدة، لحجب الشرعية عن أي استخدام للأسلحة النووية، وإقناع بوتين بأنه سيرتكب خطأ فادحاً لو لجأ إلى ترسانته النووية. على الولايات المتحدة أن تقوم بذلك الآن. فبهذه الطريقة يمكن لواشنطن تلافي الاضطرار لاحقاً إلى اتخاذ قرارات خطرة تحت ضغوط المأزق النووي.
استنفار وجهوزية
لم تتستر روسيا أبداً في شأن ترسانتها النووية. من اللحظة الأولى لاجتياحها أوكرانيا، حاولت روسيا تخويف العالم عبر الحديث عن أسلحتها. وبعد فترة قصيرة من بدء هجومها، أجرت روسيا في توقيت غير عادي تدريباً لأنظمة إطلاق الأسلحة النووية. وبعد سنة، في شهر فبراير 2023، علقت مشاركتها في اتفاقية “نيو ستارت” (New START) التي نظمت (وضبطت) عدد الأسلحة النووية التي يمكن لموسكو وواشنطن أن تملكانها. وفي مارس (آذار)، أعلن الكرملين أنه سينقل بعض أسلحته النووية إلى بيلاروس. وفي أكتوبر (تشرين الأول)، ذكر بوتين أن روسيا قد تعاود إجراء التجارب النووية، ثم في أثناء هذا كله هدد مسؤولون حكوميون روس، بمن فيهم الرئيس الأسبق ديمتري ميدفيديف في يوليو (تموز) بتنفيذ هجوم نووي، حين قال إن روسيا قد “تستخدم الأسلحة النووية” لحسم الحرب في بضعة أيام.
المسؤولون الأميركيون تابعوا تلك التهديدات بانتباه طبعاً، لكنهم لم يقتنعوا بها. فهم رأوا أن موسكو قد تستخدم أسلحة نووية صغيرة – تعرف بالأسلحة التكتيكية – في أرض المعركة، وليس أسلحة نووية كبرى – استراتيجية – ضد دول حلف الناتو. وفي هذا السياق، وفق (مجلة) “بوليتيكو”، قال مستشار الأمن القومي جيك سوليفان لخبراء أميركيين في شهر فبراير إن هناك تخوفاً ضئيلاً من إقدام روسيا على استخدام أسلحة نووية استراتيجية في أوكرانيا أو ضد الغرب، لكن البعض يبقى متخوفاً من لجوئها إلى الأسلحة التكتيكية، إذ إن بوتين، بحسب اعتقاد البعض، قد يستخدم تلك الأسلحة لمساعدة القوات الروسية على تعطيل الهجوم الأوكراني الذي بدا على وشك استعادة القرم أو على إنزال هزيمة بالروس تخرج قواتهم من شرق أوكرانيا.
بيد أن التهاون المتنامي السائد في أوساط المسؤولين الأميركيين يستند في الحقيقة إلى سوء فهم لخطاب بوتين وشعاراته، وللديناميات التي تجنب روسيا استخدام الأسلحة النووية. فبوتين حين يأتي على ذكر ترسانته لا يفعل ذلك محاولاً التحذير من أن روسيا قد تستخدم أسلحة نووية تكتيكية في أوكرانيا. بل يهدف بخطابه هذا إلى تهديد حلف الناتو نفسه. وذاك ليس سوى “وميض ضوء أحمر” وتحذير إلى صناع القرار الأميركيين بأن موسكو مستعدة للبدء في مواجهة نووية مع واشنطن إن تطلب انتصارها في أوكرانيا ذلك.
كي يفهم المرء سبب هذا الأمر، عليه أولاً أن يلاحظ واقع أرض المعركة. فالأسلحة النووية التكتيكية لن تساعد روسيا كثيراً في كسر الجمود الحاصل، إذ إن القوات الأوكرانية متحصنة جيداً على طول جبهة بامتداد 600 ميل تقريباً، وأمام ذلك لن تكفي عشرات الأسلحة التكتيكية النووية كي تسمح للقوات الروسية بالاختراق والتقدم. بل حتى لو نجحت هذه الأسلحة بتحقيق اختراق ما، فإن روسيا تفتقر إلى قوات احتياط قادرة على المناورة للاستفادة من الاختراق الذي حققته تلك الأسلحة والتقدم. أي هجوم نووي سيمثل حدثاً مرعباً بالنسبة إلى الأوكرانيين طبعاً، لكنه سيبقى غير قادر على كسر إرادة الشعب الأوكراني وإجبار كييف على الاستسلام. لقد قاتل الأوكرانيون بشجاعة هائلة في ظل ممارسة مختلف أنواع الفظائع، وأي هجمة نووية تكتيكية لن تكون إلا عنواناً آخر للوحشية الروسية، هذا ما قاله الأوكرانيون في تفاعلهم مع استطلاعات الرأي، إذ إنه وفق دراسات استطلاعية أجريت من قبل “مؤتمر ميونيخ للأمن” ومراكز أبحاث أوكرانية، فإن الشعب الأوكراني غير مستعد للاستسلام أمام موسكو ووقف القتال، حتى إزاء التهديدات النووية.
ومن شأن الضربات النووية التكتيكية، وإن أسهمت بأمر ما، فهي ستؤذي جهود روسيا في الحرب، إذ من المرجح أن تؤدي هجمات كهذه إلى تعزيز رغبة الغرب في مساعدة أوكرانيا، وذلك في اللحظة عينها التي بدت فيها هذه الرغبة في حالة تراجع (لدى السياسيين الغربيين من مختلف الأطياف دافعاً قوياً لضمانة عدم استخدام الأسلحة النووية في الحروب أبداً). كذلك فإن الضربة النووية قد تدفع بالصين والهند – الشريكين الدوليين الأهم بالنسبة إلى الكرملين – إلى الابتعاد عن روسيا، إذ إن بكين ونيودلهي كلتيهما أطلقت مواقف علنية لثني موسكو عن استخدام الأسلحة النووية. وهما لن تكونا سعيدتين لو تجاهلهما بوتين.
وتبقى المكاسب من استخدام أسلحة نووية في أوكرانيا ضئيلة بالنسبة إلى بوتين، والخسائر، في المقابل، كثيرة. هو الآن في الواقع لا يرى أي مكاسب كبرى من استخدامه الأسلحة النووية في أي مكان. فبوتين يعتقد أن بوسع روسيا الانتصار في أوكرانيا عبر الوسائل التقليدية. “على طول خط المواجهة تقريباً تقوم قواتنا المسلحة، ومن دون مبالغة، بتحسين مواقعها”، قال في الـ14 من ديسمبر (كانون الأول) خلال مؤتمر صحافي. كذلك أشار إلى أن الدعم الغربي لكييف يبدو متراجعاً، معلناً أن “الهدايا” التي قدمت لأوكرانيا “ستستنفد” عما قريب، إذ ما دام بوتين بقي متفائلاً تجاه الاحتمالات المتاحة لروسيا، فإن فكرة قلبه الطاولة في أوكرانيا عبر المضي في التصعيد تبقى مستبعدة، لكن الرئيس الروسي قد لا يستقر على هذا الموقف. ففي حال عبر الغرب عن التزام قوي ومتجدد بدعم كييف وهي تحاول استعادة جميع أراضيها المحتلة، ومنح أوكرانيا دعماً مالياً طويل الأمد وصناعة دفاعية متقدمة، قد يرى بوتين حينها أنه غير قادر على سحق أوكرانيا عبر حرب استنزاف. كذلك إن بدأت العقوبات الاقتصادية الغربية أخيراً في تقويض الاقتصاد الروسي على نحو ملحوظ، قد يستنتج بوتين أن الوقت ليس إلى جانبه، إذ ذاك قد يقرر الرئيس الروسي مفاقمة الأمر بدل انتظار التقدم الأوكراني. وعند هذه النقطة تبدأ أخطار التصعيد الحقيقية.
صفر مقابل ستين
المجموعة الأولى من الأخطار التصعيدية بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحلفائها قد تبدو أقرب إلى مزيد من التهويل والتهديدات. فالكرملين، مثلاً، قد يبدأ بتحريك آلياته التي تحمل أسلحة نووية ضخمة وبعيدة المدى، ونشرها في مواقع متفرقة بعيداً من قواعدها العادية المعرضة لهجمات أميركية، كما يمكن للكرملين مثلاً أن يرسل الجزء الأكبر من غواصاته التي تحمل صواريخ نووية باليستية إلى البحار، وأن ينشر أعداداً كبيرة من وحدات إطلاق الصواريخ الاستراتيجية في الغابات الروسية الشاسعة، ويزود القاذفات الاستراتيجية بالصواريخ والقنابل النووية. صحيح أن هذه الإجراءات تظل أقل بكثير من الفعل الحقيقي لاستخدام الأسلحة النووية، لكنها تبقى مقلقة للغاية. فهي من دون أدنى شك ستثير انتباه واشنطن، وستزيد التوتر على نحو دراماتيكي، وتجبر القادة الغربيين فوراً على أخذ خطر الحرب النووية على محمل الجد وإدراجه في حساباتهم. لأن موسكو قد تبدأ في الواقع باستخدام القوة ضد حلف الناتو. يمكنها مثلاً أن تسقط طائرة للناتو فوق بلد حليف، أو في مجال جوي دولي، كما يمكنها مهاجمة سفينة للناتو في البحر الأسود. أو أن تهاجم ما تزعم أنه قافلة أسلحة مخصصة لأوكرانيا خلال تحركها في بلد واقع بالخاصرة الشرقية لحلف الناتو. خطوات كهذه ستوسع مجال النزاع بسرعة، وتجر الناتو إلى المعركة. ويمكن لموسكو تعزيز خطواتها هذه عبر تفجير سلاح نووي في المحيط الشاسع، وهو ما يسمى “ضربة استعراضية”.
أخيراً، بحسب السيناريو الأسوأ – الذي يهدف الكرملين من خلاله إلى صدم العالم لإنهاء الحرب في أوكرانيا بسرعة ووفق شروط بوتين – يمكن لروسيا في الواقع أن توجه ضربة نووية مباشرة لأراضي الناتو، وذلك على رغم أن بوتين بدا كما لو أنه يصب ماءً بارداً على هذه الفكرة خلال منتدى سنوي بأكتوبر، حين قال إن روسيا لم تحتج إلى تخفيض احتمال استخدام السلاح النووي الضروري ربما إن اتجهت الحرب نحو روسيا. فنسبة 80 في المئة من شحنات المساعدات العسكرية إلى أوكرانيا تنقل جواً عبر قاعدة جوية في شرق بولندا، لذا من المرجح أن تشكل هذه القاعدة الجوية هدفاً أولياً. حينها قد ترد الولايات المتحدة من جهتها بضربة نووية، مما يضع العالم على حافة الدمار.
وما إن يبدأ بوتين تصعيده قد لا يتطلب منه الأمر وقتاً طويلاً للانتقال من التهويلات النووية الحادة والهجمات التقليدية، إلى إصدار الأوامر بتوجيه ضربة نووية. وإن أراد بوتين التصعيد بإيقاع بطيء مطلقاً هجمات أصغر حجماً كي يرى طريقة رد الناتو، فسيكون حينها أمام خطر إثارة نزاع تقليدي – بمواجهة قوات الناتو على الأرجح التي ستتدخل مباشرة في أوكرانيا وربما داخل روسيا نفسها – حيث يكون للغرب أرجحية واضحة. فقوات الناتو التقليدية متفوقة على القوات الروسية، لذا لن يقبل بوتين بمنح واشنطن الوقت والمجال الكافيين كي تقوم برد فعل تستخدم فيها قواها التقليدية. بل هو سيفضل بلوغ المستوى النووي في أسرع وقت ممكن – حيث توازي قوة روسيا (في المجال النووي) قوة الولايات المتحدة.
بالطبع لا يريد المسؤولون الأميركيون من موسكو اللجوء إلى الأسلحة النووية، حتى لو بدوا غير مقتنعين بأنها ستفعل ذلك. لهذا السبب حاولوا إخافة روسيا من التصعيد عبر تهديدها “بعواقب كارثية” إن استخدم بوتين ترسانته النووية، وفق ما صدر من البيت الأبيض في سبتمبر (أيلول) 2022، لكن من غير المرجح أن تؤدي تحذيرات كهذه إلى ردع الرئيس الروسي. فبوتين قد يرى تحذيرات من هذا النوع مجرد خداع، إذ إنه يعلم في نهاية المطاف أن واشنطن لا تريد المخاطرة بنزاع نووي من أجل أوكرانيا، إضافة إلى أنه مصمم تماماً على النصر في أوكرانيا، لدرجة قد تحمله على التصعيد من دون إبطاء الوتيرة حتى لو رأى أن الولايات المتحدة جدية في الرد بالقوة، وأنه على الأرجح سيشك بجسامة أي تهديد أميركي، وسيرى أن واشنطن في نهاية المطاف ستختار التسوية بدل إطلاق هجمات نووية ضد أراضي روسيا، التي قد ترد بضربة نووية على أرض الولايات المتحدة.
الحقيقة المؤسفة هنا تتمثل بأن الولايات المتحدة لا يمكنها ردع بوتين عن التصعيد باتجاه مرحلة يستخدم فيها الأسلحة النووية بإطار الحرب في أوكرانيا. وعلى رغم أن بوتين لن يخفف من احتمال تصعيد كهذا، أو يغفل الأخطار الجدية بالنسبة إلى روسيا، فسيرى أنه قادر على الانتصار في “حرب الإرادات” ضمن النزاع النووي، لذا إن أرادت واشنطن تلافي الصدام النووي عليها سلوك طريق مختلف. على صناع السياسة الأميركيين اعتماد سياسات تهدف إلى تقويض عملية صنع القرارات الروسية، إذ إن أمر بوتين بخطوات تصعيدية سيواجه معارضة داخلية، هذا يعني أن على الأميركيين محاولة دعم المسؤولين الروس الذين يودون تعطيل أي جهد يقوم به بوتين لاستخدام النووي. القيام بهذا الأمر ليس سهلاً نظراً إلى بلوغ العلاقات الأميركية الروسية أدنى مستوياتها الممكنة، لكن بوسع واشنطن البدء بذلك عبر التعاطي أكثر مع موسكو على رغم الإيحاء البغيض لهذا المنحى. فالطريقة الوحيدة التي يمكن للمسؤولين الأميركيين، بمن فيهم العاملون في مجال الاستخبارات، تنمية المعارضة بين المسؤولين الروس تتمثل بإقامة مزيد من التواصل المباشر معهم.
كذلك على الولايات المتحدة أن تقنع المسؤولين الروس بأن هناك طرقاً تخرجهم من أوكرانيا من دون نصر أو هزيمة مذلة، إذ يمكن لواشنطن، مثلاً، أن تشير إلى أن المسؤولين الأكبر فقط، دون سواهم، قد يعاقبون بسبب إطلاقهم الحرب في أوكرانيا، وأن التعويضات لأوكرانيا ستكون محدودة، وأن هناك سبيلاً لرفع العقوبات عن روسيا والسماح للدولة الروسية بالعودة إلى المجتمع الدولي. لا يلزم الآن شرح النهج التفصيلي الذي ستتبعه هذه المقاربة صراحة. إلا أن المسؤولين الروس الكبار يجب أن يعرفوا ببساطة أنهم ليسوا أمام خياري الاستسلام والتصعيد النووي.
يبقى أن الولايات المتحدة لا يمكنها الاعتماد فقط على المسؤولين الروس لإيقاف بوتين عن استخدام الأسلحة النووية. بل عليها تزامناً دفع الدول المحايدة إلى الضغط على موسكو للابتعاد عن خيار التصعيد (النووي). عليها دفع هذه الدول كي تكون واضحة في محادثاتها مع المسؤولين الروس لتأكيد أن أي استخدام للنووي هو غير مشروع، وسيؤدي إلى الإضرار بمختلف مظاهر الدعم المادي والمباشر لجهود روسيا الحربية. التحذيرات العلنية التي أطلقتها كل من الصين والهند تجاه الهجمات النووية تمثل إشارات إيجابية، لكن على هذين البلدين وغيرهما من الدول – مثل تركيا والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، التي تسهم جميعها في إبقاء الاقتصاد الروسي واقفاً على قدميه – القيام بمزيد من الجهود. ومن واجبها أن تفعل ذلك. فسياسة حافة الهاوية النووية هي لعبة خطرة، خصوصاً بوجود قائد سلطوي مثل بوتين. الوقت الآن ليس للتقاعس. ولكي يتفادى العالم حرباً نووية، على الدول أن تقنع موسكو بأن النصر في أوكرانيا لا يستحق ثمن وضع العالم على حافة الهاوية – أو إلقائه فيها.
*بيتر شرودر باحث مساعد بارز ضمن “برنامج عبر الأطلسي للأمن” في مركز “نيو أميركان سيكيوريتي”. خدم نائباً أول لقائد الاستخبارات الوطنية لروسيا وأوراسيا في المجلس الوطني للاستخبارات من عام 2018 إلى 2022، وكان عضواً في الجهاز الأعلى لتحليل المعلومات بالـ”سي آي أي” (وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية).
مترجم من “فورين أفيرز”، 20 ديسمبر (كانون الأول) 2023
المصدر: اندبندنت عربية