تعيد الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزّة ترتيب أوراق المنطقة، وهي رغم محاولة حصارها في بقعتها الجغرافية الصغيرة التي اختارتها إسرائيل لنفسها، فإنها عمّمت نتائجها على كل ما حولها، بدءاً من خيارات الفصائل الفلسطينية وحواضنها الشعبية، إلى السلطة الفلسطينية، وسيناريوهات اليوم التالي بعد الحرب، وصولاً إلى دول الجوار، وتصدير أزمات وتداعيات الحرب إليها، إلى الدول التي تعيش، بين حين وآخر، على وقْع التهديدات الإسرائيلية، وقصفها مواقع حيوية داخل حدودها، وتوعّدها بدمار قد يشابه ما يحدُث في غزّة، إلى تنحية أي دور عربي في القضية الفلسطينية، وتعرية شعارات الأنظمة في الدفاع عن حقّ الشعب الفلسطيني في إقامة دولته على أرضه.
ويأتي في هذا السياق لبنان على وجه الخصوص، كإحدى الوجهات الرئيسية لإسرائيل في توسيع خيارات الحرب، حيث تحمّله مسؤولية قرار حزب الله، من دون بقية من ساسته، في فتح جبهته ضدّها، ما يمنحها الغطاء الذي تأمله لممارسة عدوانها المبيّت ضده، والمواجهة المعلنة معه، تحت الحجج نفسها التي اتخذتها في حربها الهمجية على غزّة، وهي اجتثاث خطر حركة حماس فلسطينياً، وبالتوازي، إبعاد خطر إرهاب حزب الله في لبنان عن حدودها الشمالية، وهو ما قد يلجأ إليه رئيس وزراء إسرائيل، نتنياهو، كإحدى وسائل التمديد الاجباري لحكومته، واستعادة شعبيته في المجال الإسرائيلي.
وفيما يخصّ وضع سورية المتأزّم أساساً، والتي يمارس عليها التهديد الإسرائيلي شبه الدائم، عبر القصف المتتالي لمنشآتها الحيوية، ومنها مطاراتها، التي لا تكاد تعمل لتخرج عن الخدمة، فإن أسباب توسع الحرب إليها متوفّرة بحكم الوجود الإيراني فيها، والتزام كل طرفٍ في الصراع غير المباشر بإبادة الآخر، واستخدام الساحة السورية حلبة صراع، من دون أن يقرب أي طرفٍ منهما من حافّة الحرب أو ينفيها، وهذا، في الآن ذاته، ينفي أيضاً، عن واقع سورية حالتي السلم والحرب مع إسرائيل، كما هو واقع حال النظام السوري مع جبهات معارضيه، الموزّعة بين حربه على المعارضة المدنية من جهة، أو حربه على الفصائل المسلحة باختلاف تبعياتها ومرجعياتها من جهة مقابلة.
صحيحٌ أن النظام السوري “الحاكم” ليس هو المستهدف الرئيس في أي عدوان إسرائيلي على سورية، لكن ذلك لا يمنع من أن السوريين هم من يتحمّلون تبعات ذلك الاستهداف، وهذا التبجح الإسرائيلي غير المدان دولياً، (بحكم الرعاية الأميركية والتعاطف الغربي مع طموحات أو تبريرات إسرائيل العدوانية)، ما يحاصر حياة الشعب السوري المعيشية، ويزيد من معاناتهم، ويضعهم بين فكّي كمّاشة، أحدها، الحرب الداخلية التي يشنّها النظام على المناطق الخارجة عن سيطرته، والتي تمثل منافذ اقتصادية لبعض مناطق النظام، والآخر، الحرب التي تشنّها إسرائيل على المنشآت الحيوية التي تستخدمها إيران لمصالحها الإقليمية، التي لم تدخل حرب غزّة الحالية في حيّز حسابات الدعم الإيراني للقضية الفلسطينية، والذي يتناسب وادّعاء قيادتها محور المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي فلسطين.
تأكيد إسرائيل في كل اعتداء على سورية أنها تستهدف الوجود الإيراني ونشاطاته هو تحييد معلن لأي عداء إسرائيلي مع النظام السوري، ما يعني إخراج النظام من العلاقة الثلاثية التي جمعته مع إيران وحزب الله، في إطار ما يسمّى محور المقاومة والممانعة، ووضعه في مستوى آخر يمكن وصفه، على أحسن الظن، بالحيادي تجاهها، ما يعني أن الأسد خرج من حسابات إسرائيل جهةً حليفة لإيران، كما خرجت إسرائيل من حساباته عدواً محتملاً، أي إن ما يهدّد النظام السوري هو الداخل المشتعل، وليس الكابوس الإسرائيلي الذي لا يمكن أن يراهن على صداقته، في ظل الخوف الذي “يتوهّمه” من كل من ليس إسرائيلياً بالفطرة، أو بالدعم، أو تجنّباً لتهمة عداء السامية، وإنكار الهولوكوست، ما يجعل من توسّع إسرائيل عبر مراحل، تنتقل من “حماس” إلى حزب الله، ومن ثم إلى مواقع دعمهما المادّية والجغرافية، أمراً ليس ببعيد إن بقي الحال على هذا الحال!
ربما لا يفيد كثيراً البحث عن موقع سورية في حلف الممانعة ذاك، الذي لم ينقذ حتى اليوم فلسطينياً واحداً، لكن ذلك الحديث عن النظام السوري لا يغطّي على الحقيقة، التي أثبتتها التجربة، بعيداً عن الشعارات، والتي تقول إن هذا النظام لا يعتبر نفسه معنياً بالصراع ضد إسرائيل، إذ إنه تجاوز ادّعاء كهذا منذ زمن، ولم يعد يعنيه، منذ أصبح معارضوه هم أعداؤه فقط، حتى لو احتسبه بعضهم، جغرافياً، ضمن حلف المقاومة والممانعة، وهو أصلاً حلف شكلي، كما كشفت حرب إسرائيل في غزّة. وبالمثل، لا تعتبر إسرائيل النظام السوري مصدر تهديد لها، ولا في أي شكل، فهي تضرب فيه منذ عشرة أعوام من دون أن تهدّد (هي) بإضعافه، أو يغير (هو) من موقعه الحيادي!
وإذا كان الرئيس السوري، بشّار الأسد، قد أخذ أمانه “دولياً ” في كل السنوات الماضية من وضعه “الحيادي” تجاه إسرائيل، وصمته على ما يحدُث في غزّة منذ نحو ثلاثة أشهر، فإن أمانه “سورياً” لن يستتبّ له بعد على الرغم من الدعمين، الإيراني والروسي، له، فما أن تهدأ زاوية أو حي أو مدينة، حتى تعلن أخرى ثورتها، وهو ما قد يكون الأسد أدركه ويسعى إليه عبر “إصلاحاتٍ” تبدأ من حمله المعول ضد حزبه الحاكم ليُثبت أنه قابلٌ للتطويع، على الرغم من الصدأ الذي اعتلى كرسيّه، إلى تنفيذ كامل المطالب الأميركية المنقولة له عبر الوسطاء العرب.
المصدر: العربي الجديد