فيما يبدو العالم مشغولاً – وهو على مشارف نهاية العام 2023 – بوقائع حربين ضروسين أولاهما الحرب الروسية الأوكرانية، وثانيهما الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وكذلك في الوقت الذي تتحرك فيه معظم الدول المحيطة بهذين الصراعين نحو تدوير زواياها مرةً تلو أخرى، بحثاً عن مقاربات جديدة تتيح لها الحفاظ على مصالحها وتعزيز تموضعها السياسي والاقتصادي على ضوء المستجدات المتلاحقة، إلّا أن السوريين ربما امتازوا عن سواهم في هذا الدور من جهة أنهم أرادوا مواكبة سواهم بهذه المقاربة ولكنها جاءت مشطورةً، إذ كان التركيز على النصف الأول من المقاربة عبر السؤالين التاليين: ما هي الآثار المرتدّة من حرب روسيا وأوكرانيا على القضية السورية؟ وكذلك: ما هي تداعيات الحرب الصهيونية على غزّة؟ وذلك دون إتمام الشطر الثاني من المقاربة الذي يتمثل بالسؤال: ما الذي يتوجب علينا القيام به ليُتاح لنا استثمار التحوّلات أو التداعيات الناتجة عن تلك الحربين لصالح قضية السوريين؟ وحتى إن لم تكن ثمة نتائج إيجابية مُتوقعة تلوح بالأفق، كان يمكن التفكير بمسعى يفضي إلى تقليص أو تحجيم الآثار السلبية للحربين المذكورتين على المأساة السورية التي باتت تزداد تجذّراً يوماً بعد يوم.
ربما تدفعنا هذه الملاحظات إلى متابعة أو جردة حساب – كما يقال – لما أفضت إليه التوجهات الأخيرة لأربع سلطات أمر واقع تتقاسم النفوذ على الجغرافيا السورية، علما أن هذه السلطات جميعها، على الرغم من تباينها الإيديولوجي وتكويناتها الاجتماعية، وكذلك على الرغم من حالات التصادم والتنابذ فيما بينها، إلّا أنّ ثمة مشتركاتٍ مصيرية ما تزال هي الناظمة فيما بينها، ولعل أهمّ تلك المشتركات هي أن جميع تلك السلطات لا تستمد شرعية وجودها من المكوّنات البشرية التي تحكمها، بل من قدرة تلك السلطات على قهرهم وثنْي إرادتهم وكبح تطلعاتهم، فهي سلطات مأزومة، باعتبارها في حالة صراع مع محكوميها، وسبيلها الذي لا تملك سواه لمواجهة أزمتها هو الرهان على استمرار ممارسة القهر بغيةَ ترويض إرادة الخصم (الشعب) وديمومة خنوعه. وثاني تلك المشتركات هو حرصها مجتمعة على القيام بدور الوكالة الوظيفية وغياب الدور أو السلوك الذي يستمد مشروعيته من حاجات المواطنين وهواجسهم الوجودية، ولعل هذا ما يطيح بأية محاولة من جانب تلك السلطات للتصالح مع محكوميها. والسمة المشتركة الثالثة تتجلّى بمواظبتها مجتمعةً على تأبيد الحالة الراهنة لتعدد النفوذ والكيانات حرصاً على مصالحها السلطوية من جهة، وإخلاصاً لإملاءات الرعاة الدوليين من جهة أخرى، ولعله ليس من قبيل الصدفة أن تتزامن مساعي تلك السلطات – على اختلاف توجهاتها – نحو هدف مشترك هو تحصين دعائم وجدران السلطة لتكون أكثر قدرةً على الاستمرار، مقابل تجاهل مطلق لمأساة المواطنين السوريين الذين بات الهاجس الغالب لدى أكثريتهم لا يتجاوز تأمين الحد الأدنى من الحاجات المعيشية للحفاظ على البقاء.
ففي حين بدا رأس النظام الحاكم في دمشق متجاهلاً لكل ما يعصف بالبلاد من كوارث وعكف على إصدار بضعة مراسيم منها ما يتعلق باستدعاء ضباطه الذين تجاوزت أعمارهم سنّ التقاعد ليعملوا في جيشه كمستشارين، الأمر الذي فسّره البعض باستعادة السلطة لشريحة عسكرية لها حاضنتها التي لا يجب أن تنفكّ مصيرياً عن رأس النظام، ومنها ما يتعلّق بتحديث إدارة شؤون رئاسة الجمهورية، أي إلغاء وزارة شؤون رئاسة الجمهورية واستبدالها بمديرية، وربما يتبع ذلك إعادة تموضع جديد لخارطة الأفرع الأمنية والمخابرات، الأمر الذي يعزوه البعض إلى إملاءات روسية، ولكن بعيداً عن الدوافع الكامنة وراء هذه المراسيم، فإنها بمجملها لا تطول بل لا تلامس أي همّ حياتي لدى المواطن الذي ربما تساءل باستغراب: هل ستساهم هذه المراسيم جميعها بمعالجة أزمة الحصول على رغيف الخبز؟ وفي موازاة ذلك لا تبدو سلطة الإدارة الذاتية بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي (pyd) شديدة الاكتراث بحالة الغليان الشعبي في مناطق نفوذها من جرّاء البؤس المعيشي والأمني في منطقة هي الأوفر غنًى في سوريا، إذ ربما بدا من المستغرب أن تعلن سلطة قسد عن عقد اجتماعي من المفترض أن يكون نتاجاً لإرادة شعبية عبر تمثيل ومشاركة تحظى بدرجة من المصداقية، أمّا أن تباغت السلطة المواطن بعقد اجتماعي لا علم له به وهو يستغيث بالبحث عن بضعة لترات من الوقود لتدفئة أطفاله في ظل سلطة تحكم قبضتها على النفط السوري كاملاً، فتلك من المفارقات العجيبة، وبالتالي هل المراد من العقد الاجتماعي أن يكون ضامناً لحرية المواطن وكرامته وحقوقه أم فرماناً سلطوياً لا يختلف عن الفرمانات الأمنية الأخرى؟ وعلى الجهة النقيضة لقسد ما يزال الائتلاف وحكومته المؤقتة منشغلين – بعد فوزهما باستمرار سلطتهما بالصرماية – باستمالة حاضنة قد تبدو لهما ضرورية في الداخل السوري، فمن لقاء مع العشائر، إلى جولة في مضايف الفصائل، ولقاءات مماثلة لرئيس هيئة التفاوض مع طلاب جامعة اعزاز ليؤكد لهم على أهمية المنجز العظيم (اللجنة الدستورية) وضرورة استمرار عملها كجسر خلاص وحيد للقضية السورية، إلّا أن هذا الحضور الكثيف لمسؤولي السلطات الرسمية للمعارضة في مناطق الشمال السوري وسطَ آلاف من مقاتلي (الجيش الوطني) لم يمنع مئتي مقاتل من جبهة النصرة أرسلهم الجولاني ليدخلوا مدينة اعزاز (معقل الجيش الوطني) ويقوموا باعتقال المدعو أبو أحمد زكور ( جهاد عيسى الشيخ) أحد المتمردين على قادته، ولعل السؤال الشاغل لأذهان الكثيرين: هل اقتحام مدينة اعزاز من جانب هيئة تحرير الشام بلا أي مواجهة أو ردّة فعل من جانب الحكومة المؤقتة والجيش الوطني، هو اختراق أمني أم تنسيق بين الطرفين أم ماذا؟ وماذا لو قرر أبو محمد الجولاني اعتقال أي ناشط أو مواطن في مدن الشمال الأخرى بالطريقة ذاتها، فهل ستحميه الحكومة المؤقتة أو الائتلاف أو الفصائل العسكرية أم تنتظر المخابرات التركية لاستدراك الأمر كما حدث مع المدعو أبو أحمد زكور؟ وفي سياق السعي لتأبيد حالة الانحدار ربما بدت هيئة تحرير الشام هي الأكثر انسجاماً مع توحّشها ونزعتها الافتراسية، شأنها في ذلك كشأن معظم الجماعات الجهادية المتطرفة التي تأبى عليها مركزيتها الشديدة ونزوعها نحو شخصنة السلطة واختزالها بيد صاحب الشوكة الأقوى إلّا أن تبطش بكل من تظهر عليه ملامح التمرّد أو تظهر عليه علائم رخاوة الولاء، وبذلك لم تشأ جبهة النصرة أن ينتهي هذا العام دون أن تطوي بأذياله إصلاحات في بنية السلطة تكون موازيةً للإصلاحات التي أقدمت عليها قريناتها الأخرى.
وفي الوقت الذي لا يرى محكومو هذه السلطات أي معطى باعث على التفاؤل يمكن أن يكون استهلالاً لعام جديد، يبقى الحراك الشعبي في مدينة السويداء بصيص نور ينبعث من الجنوب، فهل سيقوى على السطوع في بقية البلاد السورية؟.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا