بين تراثنا والحداثة

د- عبد الناصر سكرية

ببساطة واختصار شديدين بينت حرب فلسطين الحالية، أن الذين يقاومون ببسالة نادرة وإيمان راسخ عميق لا يتزعزع ويقدمون أرواحهم فداء للأرض والوطن ومقاومة العدوان الهمجي وحرب الإبادة التي يشنها العدو الصهيوني على أهلنا في غزة وفلسطين، هم أؤلئك المؤمنون بربهم والذين تشكلت ثقافتهم وعقولهم على ضوء وهدي التراث الفكري والديني بكل ما فيه …

والذين صدعوا رؤوسنا بنقد التراث واتهامه بالتخلف والرجعية والسلفية مطالبين بتجاوزه إلى حداثة الغرب الليبرالية العلمانية؛ إنما بلعوا ألسنتهم أمام ما يحدث في فلسطين حيث السقوط المروع واللا متناهي للغرب ومفاهيمه الكاذبة وقيمه المنحطة التي تشرعن القتل والإبادة وكل عمليات الإجرام الوحشي بحق شعوب بأكملها ولا تحمل أي مضمون إنساني من أي نوع..فكل شعاراتها كذب ومخادعة ورياء وغطاء لاستعمار الأمم والشعوب..

هؤلاء المبشرون بالحداثة والليبرالية والنيو ليبرالية والعَلمانية ؛ اختفت أقلامهم وغاب صوتهم بل انعدمت أية مشاركة عملية ذات قيمة لهم في أي ميدان من ميادين المواجهة إزاء حرب عالمية شاملة لتدمير الوجود العربي بدءً من فلسطين..

إن كانوا يملكون بعد شيئا من المصداقية الشخصية والصدق مع ذواتهم ؛ فليقدموا لنا تفسيرا لهذا الانحطاط الحضاري والأخلاقي الفظيع للغرب ..

فليفسروا لنا نحن البسطاء الذين نؤمن بالله وكتبه ورسالاته السماوية  وقيمه الأخلاقية والإنسانية الخالدة ؛ كيف ولماذا أنتجت ليبرالية الغرب مثل تلك العقلية الإجرامية وتلك الثقافة التي تستبيح كل شيء في سبيل فرض مصالحها المادية بالقوة العسكرية المجرمة العمياء..وصولًا لأعلى مراحل الإمبريالية التي تسحق الإنسان المعاصر ومعه أمم وشعوب بكاملها..

فليفسروا لنا وهم يلحون على عقولنا بالعَلمانية ؛ لماذا أثمرت عَلمانية الغرب تلك العنصرية الحاقدة على كل ما هو إنساني يقف في طريق هيمنتهه واستغلاله لكل موارد البشر دون أدنى حق في قيمة العدل والمساوة والكرامة والحرية ..

أليست سياسة الغرب المجرمة وليدة فكره الليبرالي وثقافته العلمانية المادية اللا دينية ؟

أليس تهميش الدين وقيمه الأخلاقية والإنسانية، هو أحد أهم أسباب انحطاط الغرب الإستعماري؛ حضارياً وإنسانياً ؟؟ وصولاً إلى هذا المستوى المنحط القذر من الحقد والإجرام ؟؟

أوليس الفكر المادي الفردي النفعي وما يحمل من مفاهيم الجشع والإستغلال والأنانية ؛ نتاجا مصاحبا لفكر العَلمنة الليبرالية الرأسمالية الجاحدة ؟؟

فليقل لنا أؤلئك المثقفون دعاة الحداثة والعَلمانية ؛ كيف نحمي أنفسنا ومجتمعاتنا من مثل تلك المفاهيم المدمرة ونحن نطالب بالحداثة وما فيها ؟؟

أم أنهم يؤيدون ؛ – كما يطالب كثيرون منهم جهارا ؛- التحاقنا بثقافة الغرب وقيمه ومفاهيمه وفكره الليبرالي العَلماني بما فيه ؛ بل وانخراطنا في حركته وتماهينا مع مثله ومفاهيمه ؛ حتى نكون حداثويين لا نلتفت إلى تراثنا الديني وما فيه بل نتجاوزه ونتخلى عنه إلتزاما بمتطلبات الحداثة ؛ وإلا فنكون من القوم الجاهلين الضالين المعاندين لكل تطور وتقدم..

ألن يكون مصيرنا والحال كذلك مشابها لمصير الغرب وسياساته المجرمة وقيمه المنحلة ؟؟

أليس من حقنا بل من واجبنا أن نحتفظ لشخصيتنا الإجتماعية ولأمتنا بما لديها من خصوصيات إيجابية وقيم نبيلة فاضلة ونحن نطالب ونسير على طريق النهضة والتقدم والتحديث ؟؟

وهل إن طريق التحديث المطلوب والتطوير والتقدم هو طريق محاكاة ثقافة الغرب ومفاهيمه وليس هناك طريق آخر لذلك ؟؟ موجود أو ينبغي إيجاده ؟؟

أليست تجربة المقاومة الشعبية الباسلة في فلسطين المحتلة ؛ جديرة بالدراسة والتحليل لمعرفة ماهية تلك الدوافع النضالية الرائعة والإستثنائية التي تحملها وتتمتع بها وتتحصن بمحتواها الديني ؟؟ أليس واجبا أن نعرف ما علاقتها بذلك التراث الديني ” المذموم ” ؛ وهل يلعب دورا إيجابيا في بلورتها وصولا إلى هذا المستوى الإستثنائي من الفداء والتضحية ؟؟ أم أنه محض مصادفة عشوائية منفصلة عن تاريخ الأمة وتراثها ؟؟

لا يفهمن أحد من حديثنا أننا لا نطالب بالتحديث والتطوير والتقدم ألإيجابي في كل الميادين وعلى كل المستويات ..

ولا يعتقدن أحد أن ليس في تراثنا الديني ما هو سلبي معيق ودخيل ينبغي تجاوزه والتعالي عليه …

ولا يفهمن أحد أننا نعني بالغرب كل أبنائه وشعوبه ؛ فمنهم كثيرون جدا لم تستطع ثقافة الغرب الرأسمالية المادية الحاقدة أن تقتل روحهم الإنسانية المشرقة كما لم تستطع أن تجندهم مستهلكين في ماكينتها المادية السحيقة..فاحتفظوا بقدر عال من المشاعر الإنسانية ودوافعها النبيلة ؛ فحركتهم ودفعتهم إلى ساحات التظاهر والحرية والتضامن مع شعب فلسطين..

أما نظم الغرب ومحركات سياساته وما بها من عقم إجرامي مدمر وما تحمل من ثقافة الإكراه والإخضاع بالقوة الغاشمة العمياء ؛ فتلك هي التي تملك النفوذ والسلطة والسلطان وتدفع شعوب الغرب ذاته إلى آفاق الغد المسدودة والقاتمة…

ليس يعني حديثنا عدم وجود ما هو إيجابي وعلمي وجيد في ثقافة الغرب ؛ بل لديه الكثير مما صنعه من أسباب التقدم العلمي والتقني فأفاد به البشرية جميعا..وإن كانت عقول عظيمة من أبناء تلك البشرية قد ساهمت وما تزال تساهم فيه بفعالية متميزة ؛ إلا أن مصادر الإمكانيات والطاقات المادية والعينية التي مولت ذلك التقدم ؛ إنما هي من بلاد أؤلئك البشر المستعمرين المسحوقين بقوة الغرب الإمبريالية..

سوف يذكرنا مثقفونا من أشياع ثقافة الغرب وقيمه ؛ بحال بلادنا المأساوي وغياب الديمقراطية والحرية واحترام الإنسان والرأي الآخر ؛ وهم في سبيل الدفاع عن خيارهم بالتماهي مع الغرب وثقافته ؛ معيدين ذات نبرتهم العالية في التهكم من تراثنا وقيمنا الدينية انسياقا مع حملات مشبوهة يقف الغرب الاستعماري ذاته وراءها لفك ارتباطنا بأمتنا وثقافتها وقيمها ليسهل انخراطنا في ثقافة الغرب المادية المنحلة وتبنينا لقيمه السلوكية المرفوضة..

ولسوف نقول لهم أن الثقافة إن لم تكن أساسا للمواقف الحياتية العملانية فلا قيمة لها..ولا سيما إذا ما اتخذت غطاء لتنفيذ كل ما يخالفها ويناقضها مضمونا وسلوكا..

إزاء ما هو قائم في غزة من صمود أسطوري رائع ؛ نطالب مثقفينا المعنيين بتفسيره لنا من موقع المراقب الموضوعي الذي يسعى إلى الحقيقة وليس من موقع التبرير وتسويق ارتهانات مفروضة أو منافع مقبوضة  أو تعصب فئوي لا لزوم له.

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. شكرا…للدكتور عبد الناصر.
    مقاربة محقة وواقعية…
    فقد اتت احداث غزة الشهيدة لتسقط القناع عن الوجه القبيح لنظام العولمة الامبريالي ولتفضح زيف ديمقراطيته ومفاهيمه الحداثوية..التي ثبت عيوبها في مجتمعاته نفسها….

زر الذهاب إلى الأعلى