بعد مرور شهر على حرب استغلتها إسرائيل، طوال الأسابيع الثلاثة الأولى، في عقاب جماعي للمدنيين الفلسطينيين في غزّة تقتيلاً وتدميراً وتهجيراً، ربما اعتبر الحليف الأميركي أن جانباً مهماً من “الانتقام” بعد عملية “طوفان الأقصى” قد استوفي. لذلك بدأت واشنطن تطلق الإشارات في شأن “التوقف الموقت” و”الهدنات الإنسانية” الممكنة، لكنها اصطدمت بالرفض الإسرائيلي. ثم توالت خسائر الجيش الإسرائيلي في الأيام الأولى للهجوم البري، واستمر ارتكاب المجازر ضد المدنيين في مخيم جباليا والمستشفيات ومدارس “الأونروا”، فازداد الحليف الأميركي اقتناعاً بصعوبة تحقيق الهدف المعلن، المتفق عليه مع الإسرائيليين، أي “القضاء على حماس”، وأيضاً بالخطورة التي يشكلها هذا الهجوم على الرهائن الذين أُفشلت عملية تحريرهم بسبب تعنّت إسرائيل التي لم تتعامل جدّياً مع شروط “حماس” وبدت متخلّية عن أسراها المدنيين والعسكريين علي رغم الضغوط الداخلية. لذلك اعتبرت الإدارة الأميركية أن عليها الشروع في إجراء “تحوّل” ما في مسار الأزمة لإتاحة إخراج الرعايا الأجانب من القطاع، وزيادة المساعدات الإنسانية ولو بكميات محدودة من الوقود، وكذلك تحرير الرهائن غير الإسرائيليين ما دامت هناك استجابة من “حماس” مع الوساطة القطرية، علماً بأن عدد الرهائن القتلى بلغ نحو ستين.
بدأ التحرك الأميركي متأخراً جداً، فشاشات العالم عرضت وقائع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وتشكل رأي عام أميركي ودولي ضاغط على واشنطن باعتبارها شريكة في المسؤولية عن هذه الجرائم. جاء أنطوني بلينكن إلى إسرائيل بمطالب كثيرة، وسمّيت أيضاً “نصائح”، بينها تغيير جديد في النهج العسكري المتّبع في الحملة البرّية، وبينها أيضاً وقف متقطّع لإطلاق النار و”التقليل” من استهداف المدنيين. لكن إسرائيل رفضت أي وقف للنار بأي صيغة، ثم إنها ضاعفت استشراسها على المدنيين فقصفت مثلاً مواكب سيارات الإسعاف التي تنقل الجرحى إلى معبر رفح كي يُعالجوا في مصر أو في بلدان أخرى. غير أن “النصائح” قد تتحوّل إلى ضغوط عندما تلوح المصالح الأميركية ولا شيء غيرها، وأولاها الآن تحرير الرهائن، ثم إظهار أنها مهتمّة فعلاً وجدياً بوضع المدنيين. ولئلا يخطئ أحد في فهم الموقف الأميركي، فإن أولويته القصوى باتت إنقاذ إسرائيل من إسرائيل نفسها، وبالتالي منعها من توريط الولايات المتحدة وإغراقها في صراع طويل في المنطقة، خصوصاً مع تكاثر الوقائع والمواقف التي تؤكد الاندفاع الإسرائيلي في نهج “الإبادة”.
إذا كانت مسائل كهذه تقتضيها المصلحة المشتركة للحليفين الاستراتيجيين تصطدم بخلافات بينهما، فكيف سيكون عليه الأمر عند التطرّق إلى ملفات تتعلّق بالمستقبل، بما بعد حربٍ لا يعرف أحد متى وكيف ستنتهي، أو بالوضع في غزّة بعد “حماس”. لا شك بأن هدف “القضاء” على الحركة يعني واقعياً أن العمليات الحربية ستطول زمنياً، وقبل أن يتحقق هذا الهدف، الذي لا شيء يضمن تحقيقه، لن يكون الإسرائيليون مستعدّين للحديث عن الوضع المستقبلي. هذا ليس مجرد تعنّت، بل عقيدة عسكرية متكلّسة مدججة بأحدث الأسلحة، وهي التي تسيطر على العقل السياسي الذي يتماهى معها، خصوصاً مع اختراق الأحزاب الصهيونية الدينية المتطرفة لمختلف قطاعات الجيش الإسرائيلي. وهذا ما جعل التعامل مع الشأن الفلسطيني أمنياً فقط بلا أي أثر للسياسة، وبلا أي اعتراف بوجود “احتلال”، وبوجود اتفاقات مبرمة لإزالة هذا الاحتلال، وقد أصبح ذلك طوال عقد كامل “تحريماً” رسمياً للتعاطي مع الجانب الفلسطيني، بل غدا مع بنيامين نتنياهو “يقيناً” بأن القضية الفلسطينية طويت، بدليل تسابق الدول العربية إلى التطبيع مع إسرائيل.
لطالما كانت واشنطن تبحث عن تغيير في سلوك العرب، لكنها تجاهلت أمرين حاسمين كي يكون هناك سلام واستقرار في الشرق الأوسط: ضرورة تغيير واشنطن سياساتها، وبالتالي سلوكها حيال المنطقة العربية والقضية الفلسطينية، كذلك حتمية أن تغيّر إسرائيل سلوكها كأداة استعمارية متفلّتة ومحصّنة أميركياً وغربياً من أي مساءلة أو محاسبة. من هنا إن الخيارات التي تُطرح حالياً لهندسة الوضع في غزّة وإدارته، ويُراد أن يكون للعرب دور رئيسي فيها، لا يمكن أن تتحقق من دون أن توضح واشنطن سياساتها وتنخرط بلا لبس أو غموض في مقاربة جديدة مختلفة عن العقلية الفاشية المسيطرة على إسرائيل. فهذه الأخيرة، بعد ارتكاباتها في غزة والضفة الغربية، لم تعد مؤهلة لأي دور ما دامت قد مارست الإبادة والتهجير القسري بهدف تصفية المسألة الفلسطينية.
فهل واشنطن تريد للفلسطينيين أن ينالوا حقوقهم المشروعة ليعيشوا بسلام وكرامة، أم أنها تريدهم عبيداً لنظام عنصري متطرف، أم أنها تسعى إلى رمي العبء الفلسطيني على العرب في مصر والأردن لتبتلع إسرائيل مزيداً من الأرض وتصبح “دولة يهودية” نقية على كامل فلسطين؟.. هذه عينة من الاستحقاقات التي ما عاد يجوز أن تبقى غامضة أو عرضة للابتزازات والمساومات.
لم يكن الاجتماع بين الوزير بلينكن والوزراء العرب مرضياً للطرفين، لأنه حمل إملاءات إسرائيل لترويجها ولأنهم واجهوه بما وافق عليه المجتمع الدولي من خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة. وهكذا انكشف كذب “التحوّل” الأميركي، إذ ظلّ التجاوب مع الموقف العربي الموحّد ضعيفاً ومخاتلاً ومهجوساً بإبقاء الدعم لإسرائيل في أعلى درجاته على رغم المآخذ على أدائها. جُبه الجانب العربي في كل مطالبه بسلبية، إما بأن الوقف الفوري لإطلاق النار غير ممكن في هذه المرحلة، أو بأن الهدنة الإنسانية هي قيد البحث مع إسرائيل، أو بأن تدفق المساعدات إلى غزّة بلا قيود يمكن أن يفيد “حماس” التي تحتاج إلى الوقود، أو بأن وقف الانتهاكات الإسرائيلية في الضفة الغربية مرتبط أيضاً بالتصعيد الحاصل في غزّة. أما طلب الالتزام ببدء تنفيذ “حلّ الدولتين” فمؤجل إلى ما بعد الحرب… لكن ما العمل إزاء مليون ونصف مليون غزّي جُرفت مساكنهم أو دمّرت وأصبحوا بلا مأوى؟ إسرائيل تريد تهجيرهم، والولايات المتحدة موافقة وتستخدم هذه الورقة للضغط على العرب.
شيء من العقلانية ساهم في تفكير الإدارة الأميركية في إقناع الإسرائيليين بتعديلات “إنسانية” على مسار الحرب. لكن شيئاً كثيراً من البراغماتية/ الانتهازية أبقى هذه الإدارة علي سلبيتها حيال العرب، إذ إن اتصالاتها غير المباشرة مع إيران توصلت إلى “تفاهمات” على عدم توسيع الحرب إقليمياً. وهو ما أكدته إيران عبر الرسائل التي نطق بها وكيلها اللبناني حسن نصر الله، وفيها نأي عن عملية “طوفان الأقصى” وتخلٍّ علني عن “حماس”، أما التسخين في جنوب لبنان فلن يتخطى “قواعد الاشتباك”، وأما هجمات الميليشيات على القواعد الأميركية في سوريا والعراق فهي مجرد استعراضات لتغطية “التفاهمات” التي ستظهر مفاعيلها لاحقاً، ومن أهمها أن النفوذ الإيراني تلقّى لتوّه دعماً أميركياً متجدداً. هذا ما يفسّر السلبية الأميركية التي ترمي إلى تحميل العرب أوزار تفجير آلم إسرائيل وكان في جانب كبير من صنع إيران.
المصدر: النهار العربي