العد التنازلي للعدالة: كيف تسلط محنة محمود حمود الضوء على مدى إلحاح جلسة الاستماع المقبلة لمحكمة العدل الدولية بشأن سوريا

المعتصم الكيلاني و رانيا قيسر 

مع اقتراب موعد الجلسة الأولى في محكمة العدل الدولية في 10 أكتوبر/تشرين الأول، تُظهر تجربة محمود حمود المروعة في مراكز الاعتقال السورية إلحاحًا صارخًا بشأن انتهاكات حقوق الإنسان المنهجية من قبل نظام الأسد. ولا تُمثل روايته هذه الانتهاكات فحسب، بل تتوافق أيضًا مع المبادرة القانونية الهولندية الكندية الأخيرة التي تهدف إلى محاسبة النظام على انتهاكاته.

بينما تستعد المحكمة للنظر في الادعاءات الخطيرة، بما في ذلك التعذيب واستخدام الأسلحة الكيميائية، تسلط رحلة محمود الضوء على أهمية قيام صناع السياسة الأمريكيين بتقديم دعمهم لهذا المسعى القضائي الحاسم والنظر بشكل مدروس في اتخاذ موقف حازم بشأن الانتهاكات المستمرة لنظام الأسد.

تحول محمود حمود من شاب ثائر في سوريا إلى طالب سينمائي مشهور عالميًا يشهد على الروح الإنسانية التي لا تقهر. مُدفوعًا بحركة التغيير التي تحدث مرة واحدة في العمر، حطم محمود حواجز الخوف الخاصة به، معلنًا أنه “لن يندم” إذا أدت معاناته إلى محاسبة الأسد. اليوم، مساهماته الإعلامية وأفلامه القادمة عن المعتقلين السوريين ليست مجرد إنجازات؛ إنها دعوة واضحة للعدالة والكرامة الإنسانية.

دعم قضية محكمة العدل الدولية ضد الأسد من خلال التأييد العلني للمبادرة الهولندية الكندية سيسهم في المزيد من الانتكاسات السياسية في محاولات التطبيع. ويمكن لوزارة الخزانة تمكين هذه المحكمة من خلال فرض عقوبات على المسؤولين السوريين المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان. يمكن للكونغرس أيضا أن يدعم قضية محكمة العدل الدولية من خلال تسريع الموافقة على قوانين مكافحة التطبيع وقانون الكبتاغون.

جلسة محكمة العدل الدولية المقبلة هي لحظة فاصلة لتحقيق العدالة والمساءلة في سوريا. لتكن قصة محمود حمود الدافع الذي يجبرنا على التحرك، لضمان أن معاناته لا تندثر في النسيان ولا تتكرر. يجب على صناع القرار في الولايات المتحدة أن يستغلوا هذه اللحظة لجمع الدعم الدولي للقضية ضد نظام الأسد. والأدلة دامغة، وحاجة إلى العدالة ملحة.

الانتهاك الأول لنظام الأسد : التهجير القسري

في سن السادسة عشرة، قام محمود حمود بخطوة شجاعة عندما قرر توثيق الاحتجاجات وتنظيم أنشطة ثورية سلمية في مدرسته في معضمية الشام، بالقرب من دمشق. لكن نشاطه الثائر للشباب واجه واقعًا قاسيًا في 29 تموز (يوليو) 2012، عندما اقتحم جيش نظام الأسد مدينته، مشعلًا موجة من الاعتقالات التعسفية التي طالت المجتمع. ومواجهين تهديدًا فوريًا لسلامتهم، لم يكن لدى محمود وأخته الكبرى خيار سوى الفرار إلى لبنان.

ولكن سرعان ما اكتشفوا أن لبنان لا يوفر الراحة المأمولة. وبسبب الظروف المعيشية الصعبة وصعوبة التوازن بين التعليم والعمل، وجدوا أنفسهم في مفترق طرق. في هذا السياق، اتخذ محمود القرار الصعب بالانتقال إلى الأردن للانضمام إلى أخيه الأكبر ومواصلة دراسته. ومع ذلك، حتى في الأردن، استمرت التحديات، مما جعل من المستحيل عليه متابعة تعليمه. وبعد ميزانية تحمل الخطر، قرر محمود بشجاعة العودة إلى سوريا لاستكمال دراسته، وهو يدرك تمامًا الأخطار التي تتربص به في وطنه.

الانتهاك الثاني لنظام الأسد: احتجاز الأطفال والادعاءات التي لا أساس لها

اتخذت حياة محمود منعطفاً مدمراً آخر في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2012، على الحدود السورية الأردنية. وهناك تم إبلاغه بأنه مطلوب لفرع المخابرات الجوية في دمشق، ولم يكن يعلم أن هذا سيكون آخر مرة يرى فيها عائلته وأحبائه لمدة سبع سنوات ونصف.

وبالرغم من أنه كان في سن السابعة عشرة في ذلك الوقت، إلا أن محمود اتُهم بتمويل المسلحين وبمعرفة مواقع مستودعات الذخيرة في منطقة معضمية. ومن المثير للدهشة أن جميع الاتهامات الموجهة إليه كانت مؤرخة إلى فترات زمنية كان فيها محمود خارج البلاد، ويمكن التحقق من ذلك بسهولة. وعلى الرغم من ذلك، تم نقله إلى فرع المخابرات الجوية في المزة، بدءًا من هناك بدأت رحلته المروعة في الاعتقال التي استمرت لسنوات طويلة.

الانتهاك الثالث لنظام الأسد: إطلاق العنان لأهوال التعذيب المروعة لانتزاع اعترافات قسرية في سوريا

شهادة محمود حول فترة اعتقاله تنم عن تجارب مروعة. في أول لقاء له مع رئيس قسم الودائع في الفرع، تعرض للإيذاء الجسدي لمجرد قوله إنه “طالب مدرسة”. اعتبر المسؤول إهانة شخصية وأمر برفع محمود في الهواء بينما تلقى عدة ركلات في بطنه. هذا الاستقبال المروع استمر لمدة نصف ساعة.

كان التعذيب الذي تعرض له محمود متنوعًا ووحشيًا، بما في ذلك الجلد بالبوراكس الأخضر، والشبح، والصعق بالكهرباء، والفلقة والدولاب، والركل بالأقدام، وحتى الدفن عاريًا في الثلج. وكانت شدة التعذيب شديدة لدرجة أن محمود اعترف بجميع التهم الموجهة إليه في اليوم الثالث.

وفي المرحلة الثانية من التحقيق، تم نقل محمود إلى ضابط آخر، كان أكثر وحشية. وعلى الرغم من صرخات محمود واحتجاجه على براءته، استمر الضابط في ضربه. وتحت الإكراه، أُجبر محمود على القول إنه يمتلك بارودًا روسيًا من طراز AK-47، وهو سلاح لم يكن لديه علم به.

ولعل أكثر أشكال التعذيب سادية هو ما يصفه محمود بأنشطة “ما قبل التعذيب”. وشمل ذلك شبح السجناء الآخرين، وربط الكابلات الكهربائية بأجسادهم، وإلقاء المياه القذرة عليهم قبل بدء التعذيب الفعلي. ويقول محمود: “كانت تلك اللحظات الأكثر سادية وفظاعة خلال فترة اعتقالي”.

الانتهاك الرابع لنظام الأسد: اتهامات باطلة و”المسلخ البشري” في مراكز الاحتجاز السورية

بعد أن تحمل عشرة أشهر مرهقة في الاعتقال، تم تحميل محمود 16 تهمة، كل منها أكثر سخافة من سابقتها. وقد اتُهم بأنه مقاتل مسلح ضد جيش النظام، وقصف مركز للشرطة، وحمل العلم التركي أثناء الاحتجاجات، وهو العلم الذي يشير محمود بحق إلى أنه لم يُسمع به فعليًا في سوريا خلال عامي 2011 و2012.  يقول محمود أنه كل ما كان يتم توجيه تهمة جديدة له، كان يعترف بها على الفور.

وبقي محتجزاً في فرع المخابرات الجوية في مطار المزة العسكري بدمشق لمدة عامين ونصف إضافيين. وهنا، شهد نقل العديد من السجناء إلى المستشفى 601، وهي منشأة يُشار إليها بشكل سيئ باسم “المسلخ البشري” بسبب سوء معاملة السجناء بشكل مروع على يد متخصصين طبيين مفترضين. أولئك الذين تم إرسالهم إلى هذه المنشأة لم يعودوا أبدًا، كما يلاحظ محمود بألم.

الانتهاك الخامس لنظام الأسد: هيمنة مدير فرع المخابرات على النظام القضائي غير القانوني في سوريا وإصدار الأحكام

في مكان احتجازه، غابت كل مظاهر سيادة القانون والإجراءات الموحدة التي تحدد مصير السجناء. تتيح سلطة مدير الفرع اتخاذ قرارات تعسفية بشأن من سيتعرض لعقوبة الإعدام ومن سيتم إحالته إلى محكمة الإرهاب. ويشير المتخصص في القانون الدولي وقانون حقوق الإنسان، المعتصم الكيلاني، إلى أن محاكم الإرهاب تمتلك صلاحية الإفراج عن السجناء بعد سنوات من الاعتقال، بينما تصدر المحاكم الميدانية أحكام الإعدام.

أفادت منظمة العفو الدولية بأن هذه المحاكم تعمل خارج إطار القانون السوري. وشهد قاض سابق أن الأحكام كانت مُحددة مسبقًا، وأن جلسات المحكمة كانت مجرد إجراءات شكلية. في خطوة استباقية، أصدر بشار الأسد مرسومًا بإلغاء هذه المحاكم، لكن الشبكة السورية لحقوق الإنسان سجلت بدقة الانتهاكات الواسعة التي ارتكبها النظام في إطار هذه الإجراءات القضائية.

الانتهاك السادس لنظام الأسد: عمليات نقل قاسية للسجناء ومحاكم ميدانية غير شرعية في سوريا

بعد عامين ونصف من الاعتقال، تم نقل محمود مع 30 سجينًا آخرين إلى المحكمة الميدانية في دمشق. تمت عملية النقل في شاحنة تعرف بوصفها “شاحنة اللحوم”، مما يسلط الضوء على الظروف اللاإنسانية. وبعد وصولهم، تم احتجازهم في غرفة ضيقة.

وفي هذه المساحة الضيقة، تم استجواب السجناء في مجموعات تضم خمسة سجناء لاستكمال نماذج البيانات الشخصية. بعد ذلك، تم إدخال كل واحد منهم على حدة إلى قاعة المحكمة، التي كانت قليلة الأثاث، ولا تحتوي إلا على مكتب، وبعض الأثاث، وثلاثة افراد : القاضي الشيخ جابر الخربان و اثنين اخرين .

الانتهاك السابع لنظام الأسد: أحكام الإعدام التعسفية

وفي ما لا يمكن وصفه إلا بأنه استهزاء بالعدالة، لم تستغرق جلسة محمود القضائية بالكامل في المحكمة الميدانية سوى دقيقة ونصف. سُئل في البداية عن اسمه ومكان ميلاده، تلتها أسئلة حول مشاركته في تصوير الاحتجاجات ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي. وجاءت اللحظة المحورية عندما تم استجوابه بشأن حيازة سلاح. وحاول محمود توضيح أن اعترافاته انتُزعت تحت التعذيب، بل وعرض تقديم أدلة مادية على إصاباته. لكن، وقبل أن يتمكن من تقديم جواز سفره كدليل على غيابه عن سوريا خلال الفترة المتهم بها، مزق القاضي الوثيقة وألقاها في وجهه. ثم أصدر القاضي حكماً مستعجلاً بـ “إعدام القاصر”، وهو ما يعني السجن المؤبد دون إمكانية تنفيذه أو الإفراج المشروط.

الانتهاك الثامن لنظام الأسد: سجن صيدنايا – إعدام أو موت 

تم نقل محمود إلى سجن صيدنايا السيء السمعة بعد صدور الحكم عليه بالسجن المؤبد. وخلال إقامته التي دامت خمسة أشهر، شهد محمود إعدام 30 سجينًا كانوا معه في المحكمة. بالإضافة إلى ذلك، فقد 15 نزيلاً في زنزانته حياتهم بسبب التعذيب. وكان من بينهم أحمد إبراهيم مسالمة الذي مات من العطش الشديد.

الانتهاك التاسع لنظام الأسد: الاحتجاز المطول والإفراج التعسفي عن القُصَّر

بعد نجاتهم من الظروف المروعة في سجن صيدنايا، تم نقل محمود وقاصرين آخرين إلى سجن البالون في حمص. وبقي هناك لمدة عام وشهر قبل نقلهما إلى سجن عدرا، حيث أمضى محمود ثلاث سنوات ونصف إضافية. وتم إطلاق سراحه أخيرًا في 15 سبتمبر/أيلول 2019، بموجب عفو رئاسي شمل القُصَّر المحكوم عليهم بـ”إعدام قاصر”. وإلى جانب محمود، تم أيضًا إطلاق سراح 99 شخصًا آخر. إلا أن قصة محمود ليست حالة معزولة؛ وما زال حوالي 5,213 طفلاً محتجزين تعسفيًا ومن بينهم المختفين قسريًا في سوريا.

الخلاصة

إن رحلة محمود والعديد من الأطفال السوريين تعكس بشكل مؤلم المراحل الاجرامية المرتبطة بسلسلة من انتهاكات النظام يتردد صداها كنداء عاجل للعمل المستمر نحو  ضرورة محاسبة النظام قانونيا. مع استعداد محكمة العدل الدولية للتدقيق في الفظائع المزعومة التي ارتكبها نظام الأسد في غضون عشرة أيام فقط، فإن رواية محمود تتطلب اهتمامًا لا يتزعزع من صناع القرار في الولايات المتحدة.

إن دعم هذه العملية القضائية المحورية يتجاوز حدود العدالة؛ فهو يمثل خطوة محورية نحو إنهاء الحلقة المفرغة من الانتهاكات والإفلات من العقاب التي ابتليت بها سوريا بلا هوادة.

تؤكد هذه التجاوزات، بما في ذلك الاتهامات الملفقة، وأساليب التعذيب الهمجية، والمحاكم الميدانية الزائفة، والأحكام السريعة في المحكمة، على جدية الوضع. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاحتجاز المطول لمحمود وعدد لا يحصى من القصر المعتقلين، جنبًا إلى جنب مع الإفراج التعسفي، تكشف عن غياب صارخ للعدالة واحترام حقوق الإنسان.

تشكل هذه المسألة تحديًا هائلاً للمجتمع العالمي، وتعتبر تذكيرًا قويًا بضرورة تحقيق العدالة والمساءلة في سوريا. تمثل جلسة الاستماع المقبلة للمحكمة الدولية للعدل نقطة تحول في السعي  للعدالة والمساءلة في تاريخ سوريا المضطرب. دعوا قصة محمود تكون القوة المحركة التي تحفزكم على اتخاذ إجراءات حازمة، تضمن أن الأهوال التي مر بها لا تذوب في النسيان ولا تتكرر.

المصدر: ACLSالمركز الإعلامي لدراسات الشام

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى