سيبقى الدور الروسي في الهجوم الأذري الخاطف على جيب ناغورني كاراباخ الأرميني الأسبوع الماضي، لغزاً محيراً. هل طي صفحة “جمهورية آرتساخ” كان بعلم من موسكو، أم أن الكرملين اللاعب التقليدي الأقوى في القوقاز قد فقد أوراق القوة التي كان يتمتع بها، بعد انشغاله بالحرب في أوكرانيا؟
الذين يتهمون روسيا بالتواطؤ مع أذربيجان، يقيمون دليلاً إلى ذلك، التوتر الناشئ في العلاقات بين موسكو ويريفان. التوتر نشأ منذ وقفت قوات حفظ السلام الروسية على الحياد في مسألة إقدام أذربيجان على إقفال “ممر لاتشين”، الطريق الوحيد الذي يربط الإقليم الجبلي داخل الأراضي الأذرية المعترف بها دولياً، بأرمينيا، ما جعل 150 ألفاً من سكانه تحت حصار خانق، في ظل انقطاع إمدادات الغذاء والوقود والدواء.
في التوازي، برز تباعد تدريجي بين يريفان وموسكو، وتصاعدت حدة حرب كلامية بين المسؤولين من البلدين. وأظهر رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان ميلاً واضحاً نحو تبديل الولاءات. هو وصف الاعتماد شبه الكلي لأرمينيا على روسيا بأنه كان “خطأً تاريخياً”. وامتنع عن المشاركة في أنشطة منظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي تضم عدداً من الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق. وأخيراً، زارت زوجة باشينيان كييف على رأس قافلة مساعدات إنسانية والتقطت صورة مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، لِيَلي ذلك بأيام إجراء مناورات أرمينية-أميركية مشتركة قرب يريفان.
لم تتقبل موسكو إشارات باشينيان غير الودية، وأعربت “عن الأسف” لمحاولة انجراف أرمينيا في لعبة جيوسياسية واضحة في جنوب القوقاز. وفي خضم هذا “الاشتباك” الأرميني-الروسي، حصل الهجوم الأذري المفاجئ والخاطف على “جمهورية آرتساخ”، ليغير المشهد السياسي الذي رسم في عهد الاتحاد السوفياتي، عندما قرر ستالين عام 1921، جعل كاراباخ إقليماً ملحقاً بأذربيجان.
من ناحية أخرى، ثمة من يعتبر أن التطورات القوقازية الأخيرة، لا تصب في مصلحة موسكو، وتشكل دليلاً إلى ارتخاء قبضتها على دوائر النفوذ التقليدية لروسيا، بسبب حرب أوكرانيا.
القوقاز أيضاً ليس بعيداً من جورجيا وإيران وتركيا، وأي تبدل في المشهد السياسي، تترتب عليه نتائج وانعكاسات في هذه الدول. وها هو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يسارع إلى لقاء الرئيس الأذري إلهام علييف في جيب ناخيتشفان الأذري الواقع على الحدود بين أرمينيا وإيران. ناخيتشفان جيب أذري لا يتصل جغرافياً بجمهورية أذربيجان. وطموح أردوغان وعلييف هو إقامة ممر بري بين هذا الجيب وأذربيجان عبر ممر يخترق الأراضي الأرمينية، ما سيجعل أرمينيا منفصلة براً عن أذربيجان، ويوفر في الوقت نفسه صلة وصل برية بين تركيا وأذربيجان.
وفي أحد أكثر تعبيرات اختلاط الجغرافيا بالسياسة والاقتصاد، فإن هذا الممر لا يحظى بتأييد إيران، بينما تتوجس منه جورجيا، لأن من شأنه حرمان هذه الجمهورية القوقازية من ميزة الاستفادة من كونها ممراً للتجارة بين أنقرة وباكو. إن التواصل البري المباشر عبر ممر أرمينيا، سيغير من الجغرافيا الاقتصادية في القوقاز.
الحرب الخاطفة التي استغرقت 24 ساعة، خلقت واقعاً جيوسياسياً جديداً في القوقاز، بينما الغرب ينتظر ويراقب عن كثب، كيف تتطور الأحداث وتتقلب بسرعة قياسية.
إن المشهد السياسي الذي سيتكشف في الأيام المقبلة، لن يكون وقعه أقل تأثيراً على اللاعبين في المنطقة. ودائماً هناك رابحون وخاسرون في أي تغيير بهذا الحجم. ومن المتوقع أن ترتمي أرمينيا أكثر في أحضان الغرب، وأن تبتعد أكثر من موسكو، وصولاً إلى حد الانسحاب من معاهدة الأمن الجماعي والطلب من روسيا سحب قاعدتها الجوية من أرمينيا. ومثل هذا التطور سيترك أيضاً مزيداً من الانعكاسات على المنطقة.
المصدر: النهار العربي