شهد العالم موجة من اللاجئين السوريين تعتبر الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، وتقدر أعدادهم بسبعة ملايين، بين تركيا ولبنان والأردن ومصر وأوروبا.. الخ، وصاحبتها عشرات من المآسي الإنسانية الفظيعة، وقد احتل اللاجئون السوريون عناوينها العريضة، بعدما انقطعت بهم سبل الحياة في بلادهم وبلاد اللجوء في الدول المجاورة.
وتتباين مواقف الدول الأوروبية من لجوء السوريين، فالبعض ينظر إليها من زاوية أمنية، والبعض يراها تهديداً ديموغرافياً وإخلالاً بالتركيبة السكانية لدول الاتحاد الأوروبي، بينما يرى بعضها أنّ اللاجئين نعمة بسبب شيخوخة مجتمعاتهم ونموهم الديمغرافي السالب. لذا تبدو أوروبا اليوم متفرقة وعاجزة عن التفاعل مع أزمة اللاجئين ما بين مناهض وآخر مرحب، ولكل منهم أسبابه ومبرراته.
وتشير معطيات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أنّ اللاجئين السوريين يشكلون أكثر من ثلث العدد الكلي من اللاجئين في العالم (34%) وهذه النسبة تنم عن حجم الكارثة في سورية وحجم معاناة الشعب السوري، ونصف هؤلاء من الأطفال ومعظمهم في فئة عمرية تتراوح بين 18 و34 سنة. و13 % من اللاجئين هم من حملة الشهادات الجامعية وربعهم خريجو الثانوية.
وقد برزت ألمانيا نقطة جذب للاجئين السوريين، نتيجة التسهيلات المقدَّمة من الحكومة الألمانية فيما يتعلق بالإقامة، ولمِّ الشمل، والمعونة الاجتماعية، وكذلك تجاهلها ” بصمة دبلن ” التي تفرض على اللاجئ تقديم طلبه في أول دولة أوروبية تطئوها قدماه، ما حفز سوريين كثيرين على اعتماد خيار اللجوء إليها.
ومنذ بداية ظهور أزمة اللاجئين السوريين سادت حالة من الارتباك والتردد بين دول عديدة في أوروبا حول الطريقة المثلى للتعامل مع الأعداد المتدفقة بالآلاف من المهاجرين، والتي تزايدت معها حدة الاعتداءات والمعاملة القاسية التي تلقاها هؤلاء في بلدان الممر (مقدونيا – هنغاريا – بلغاريا – اليونان – كرواتيا – سلوفانيا).
لقد أدى تدفق اللاجئين على القارة الأوروبية إلى صعود غير مسبوق لأحزاب اليمين المتطرف، التي أشهرت فزاعات المهاجرين والحدود والإسلام للدفع بأجنداتها العنصرية وتعزيز رصيدها السياسي. مما وضع الاتحاد الاوروبي بمواجهة تحديات بالغة الخطورة، وأثارت فيضاناً من الانقسامات المجتمعية والمشاعر المتأججة والمتوجسة من تنامي الإرهاب والتطرف الإسلامي وخطط مزعومة عن أسلمة اوروبا، تروِّج لها الأحزاب القومية المتشددة والجماعات الأصولية المسيحية.
وفي المقابل، تسعى مبادرات من المجتمع المدني الى إرساء قاعدة عملية في خلق خطوط وصل مع اللاجئين، من بينها مبادرة ” حلقة السلام من أجل سورية ” التي تعمل من خلال ورش عمل متنقّلة في مدن ألمانية، لتوعية اللاجئين وسكان محليين من الألمان، وحضّهم على ضرورة تعزيز ” العيش المشترك ” وإلغاء منطق ” الأحكام المسبقة “.
وكثير من السوريين يسعون جدّياً لاجتياز حاجز اللغة، والفرص متاحة بالفعل أمام من يرغب بذلك، ومن ثمّ سيتمكّن هؤلاء من الدخول في سوق العمل، لا سيما من يمتلك منهم مؤهّلات علمية أو مهنية قد تساعده في هذا. بالتالي ثمّة في المدى المتوسط فرصٌ جدّية للاستقرار وتمديد وثائق الإقامة استناداً إلى العمل، وفق القوانين المعمول بها. كذلك بالنسبة لمن هم أقل تعليماً وتأهيلاً، إذ لا يبدو أن عودتهم أو حتى إعادتهم إلى بلادهم ستكون قريبة، فالمؤشرات الدالة على طول أمد الصراع في سورية وعدم وجود أي حل يلوح في الأفق يضع حداً للكارثة الإنسانية تعزز هذه الفرضية، وبالتالي هم باقون في ألمانيا لمدة لا يُعرف متى ستنتهي.
ويواجه اللاجئون ظروفاً جديدة مختلفة كلياً في بعض الأحيان. من ذلك، فهم القوانين والانصياع لها، ومعرفة حدود الحرية، وتطوير شخصية المواطن، وتقبّل الآخر، وبناء علاقة ثقة مع أجهزة الدولة، ومعرفة المجتمع الألماني بشكل عميق والاندماج فيه. فقد يشكل هذا الانفتاح المفاجئ صدمة ثقافية في البداية تؤدي إلى انفجار المكبوت دفعة واحدة باتجاه ما، وبشكل طائش، ليعود على صاحبه بالضرر.
ولا شك أنّ اللجوء إلى أوروبا يشكل، بالنسبة إلى أغلبيّة المهجرين، حلاً لمعاناتهم المستمرة منذ سنوات، إذ يُؤمّن لهم الاستقرار المادي والنفسي، والتعليم، وفرص العمل، وغير ذلك من المنافع على الصعيد الفردي. وفي المقابل، تبرز آثار سلبية عديدة. فمن المرجح أن تفقد سورية، في حال استمرار وتيرة اللجوء على ما هي عليه أو زيادتها، مئات الآلاف من مواطنيها سنوياً. فمن شأن ذلك أن يُحدث خللاً في التركيبة السكانية والديمغرافية لسورية، لا يقلُّ أثره عن سياسات التهجير الممنهجة التي يتبعها النظام وحلفاؤه.
فضلاً عن ذلك، يُعدُّ فقدان عنصر الشباب أحد أبرز الآثار السلبية للهجرة الحالية، لأنه عنصر ضروري ومهم في عملية إعادة الإعمار. ومن المرجح أن تخسر سورية، أيضاً، أعداداً كبيرة من الجيل الجديد الذي سوف ينشأ في بلاد بعيدة على ثقافة مختلفة، تسلخه بالتدريج عن وطنه الأصلي، وتغيّر اهتماماته وأولوياته.
إنّ مؤدى كل ما تقدم يدفع إلى القول: إنّ جاليةً سوريةً لا يُستهان بحجمها، بل وربما ” مجتمعاً سورياً “، في طور التشكّل في بلدان اللجوء، وهو ما يضع السوريين في المنافي أمام استحقاقات جمة تتطلب التفكير بها والتعامل معها بجدية، فهي تتجاوز مسألة ” الاندماج “. أي إلى البحث في سبل تنظيم السوريين لتحسين شروط حياتهم الجديدة والتعامل مع تحدياتها، بوصفهم مجموعة باتت بحكم الأمر الواقع جزءاً من سكان هذه البلاد، ما يعني وجود مصالح مشتركة يجب تحقيقها والدفاع عنها.
على أي حال، إنّ ما يحتاجه اللاجئون السوريون هو إيجاد أشكال من الجمعيات والروابط والاتحادات الطوعية التي يتنظمون فيها، كمؤسسات مجتمع مدني تعبّر عنهم وتدافع عن مصالحهم، وهو ما افتقدته سورية طوال عقودٍ من الاستبداد المزمن، حُرم فيها السوريون من كافة أشكال التجمع والتنظيم أو التعبير عن تطلعاتهم بحرية، في حين أنّ فرصةً ذهبية تلوح أمامهم لخوض هذه التجارب واختبارها مستفيدين من مناخ الحرية والديمقراطية في أوروبا.