الممرّات… سباق حواجز دولي

علي العبد الله

جاء الاتفاق على إقامة ممرّ اقتصادي يربط الهند بأوروبا مرورا بالشرق الأوسط ليشكل نقلة كبيرة على رقعة شطرنج التنافس الاقتصادي بين قوى وتجمّعات سياسية وازنة، تخوض صراعا ساخنا على الأدوار والمواقع في النظام الدولي. أعلن عن الاتفاق في قمة العشرين، التي عُقدت في نيودلهي يومي 9 و10 سبتمبر/ أيلول الجاري، وقعت عليه الولايات المتحدة والهند وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي والسعودية والإمارات. يتكوّن المشروع من خطّي نقل بحري يربط الهند بدول الخليج العربي وحديدي يربط دول الخليج العربي بالأردن وإسرائيل. بالإضافة إلى منشآتٍ للطاقة، لإنتاج ونقل الهيدروجين الأخضر، وكابلات بحرية من الألياف الزجاجية لتطوير وتحسين الاتصالات الرقمية.

أثار الإعلان أسئلة وردود فعل إقليمية ودولية بشأن ضرورة المشروع وجدواه في ضوء وجود ممرّات اقتصادية قائمة تحقّق الأهداف المعلنة منه، توفير في الوقت والكلفة. ممرّ “الحزام والطريق” الصيني، يربط الصين بأوروبا وأفريقيا عبر ممرّين برّي وبحري، بدأ تنفيذه عام 2017 وحقّق نجاحا واضحا في عقد اتفاقات مع 150 دولة وأكثر من 30 منظمة دولية للتعاون الاقتصادي عبر إقامة بنى تحتية للمشروع من طرق وجسور وسكك حديد وموانئ، أنفق على المشروع تريليون دولار، كانت تجربة أولى لجدوى المشروع قد نُفذت بإرسال قطار حاويات من الصين إلى المملكة المتحدة حيث قطع المسافة بـ14 يوما، بينما تحتاج ناقلة حاويات بحرية إلى 33 يوما للوصول من الصين إلى أوروبا مرورا بقناة السويس.

يربط ممرّ “شمال جنوب” الروسي الهندي الإيراني روسيا بالهند وإيران وأوروبا، يتكون من شبكة طرق برّية وبحرية وسكك حديد يمتد من مدينة سان بطرسبرغ الروسية على بحر البلطيق مرورا ببحر قزوين وصولًا إلى الهند عبر كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وميناء تشابهار الإيراني، وإلى دول الخليج العربي عبر ميناء بندر عباس الإيراني. نجح في إرسال حاوياتٍ بالقطار من روسيا إلى الهند ومن روسيا إلى السعودية باختصارٍ للوقت يقدّر بأيام. لهذا الممرّ إضافة تعمل عليها روسيا والصين للوصول إلى أوروبا وأميركا الشمالية عبر القطب الشمالي. ممرّ “البصرة تركيا”، أو “طريق التنمية”، يربط تركيا بالسعودية والإمارات عبر العراق، من ميناء الفاو إلى تركيا بالشاحنات والقطارات، ما زال قيد الإنشاء، وكانت دراسات الجدوى قد أشارت إلى قدرته على توفير الوقت والكلفة.

كشف اختيار شركاء الاتفاق وخط سير الممرّ أن للولايات المتحدة هدفا خاصّا منه، حرمان الصين من الأسواق الأوروبية وتعقيد علاقاتها مع دول الخليج العربي، فاختيار الشركاء وخط السير يشيران، من دون لبس، إلى سعي أميركي إلى إحكام الطوق حول الصين عبر مساعدة الهند على تحسين قدراتها الصناعية، كمّا ونوعا، بتحويلها إلى دولة قادرة على توطين صناعاتٍ متنوّعة ودقيقة من أجل جذب الاستثمارات، وإلى التشبيك مع دول جنوب شرق آسيا لتعزيز موقفها في مواجهة الصين، ما يجعلها بديلاً مغرياً للأخيرة في سلاسل التوريد إلى الدول الأوروبية والعربية، وتزويدها بالسلع والخدمات، واستثمار تطوير البنى التحتية على طول خط سير الممرّ في تعزيز النمو الاقتصادي، والمساعدة في دمج دول الشرق الأوسط وترسيخ المنطقة مركزا للنشاط الاقتصادي، فالممر الاقتصادي الجديد يتسق مع هدف واشنطن في تمكين الهند بالقدرات، كي تستطيع مقارعة الصين اقتصادياً وتقوّض مبادرة “الحزام والطريق”، فالممرّ “سيغيّر قواعد اللعبة”، وفق قول الرئيس الأميركي جو بايدن، ويخدم خطة الإدارة الأميركية التي وطّدت عزمها على الانخراط في منافسة طويلة المدى مع الصين، في عملية توازن قوى مع الصين تلعب فيها الهند دورا حاسما عبر توفير بديل للشركاء عن مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، فالهدف الأميركي من المشروع سياسي، وذلك لتعطيل مشروع “الحزام والطريق” الصيني أو التأثير عليه، فالفاعلية الاقتصادية للمشروع تبدو متواضعة بالمقارنة مع منافع مشروع “الحزام والطريق”، وفق الخبير الاقتصادي يحيى السيد عمر.

جاء الإعلان عن اعتبار المشروع جزءا من مبادرة مجموعة السبع المسمّاة “الشراكة من أجل الاستثمار في البنية التحتية العالمية”، والإعلان عن مشاركة الاتحاد الأوروبي، الذي خصّص 300 مليار يورو للإنفاق على استثمارات البنى التحتية في الخارج بين عامي 2021 و2027، في التوقيع على مذكّرة الاتفاق، لتأكيد جدّية مجموعة السبع في وعودها وقدرتها على منافسة مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، هذا مع أن اختيارها الشركاء وخط سير المشروع يشي بوضع مصالحها في قلب المشروع، فالممرّ يخدم أوروبا ويستثمر أموالا خليجية، فالنظر مركّز على دول بعينها وتجاهل، أو، في الحد الأدنى، تأجيل النظر في احتياجات دول فقيرة في آسيا وأفريقيا معرّضة لمشكلاتٍ كبيرة، وبالتالي للإنهاك. لم تترك الصين الدول المنخفضة والمتوسّطة الدخل كونها مصدرا هاما للمواد الأولية، وخصوصا الطاقة. ولكنها قد تضطرّ لإعادة النظر في حجم وارداتها من مشتقّات الطاقة والمواد الأولية، إذا ما تراجعت قدرتها التسويقية بسبب الخط الإنتاجي والتسويقي الذي يمكن أن ينجزه المشروع الجديد للأسواق الأوروبية التي يستهدفها الإنتاج الصيني.

يمكن وضع المشروع في سياق التنافس الجيوسياسي الشامل مع خصوم مجموعة السبع وتحديد هدفه المركب: دعم موقع الهند الدولي لمواجهة الصين، إبعاد الهند عن إيران، إبعاد السعودية والإمارات عن الصين، إحداث خرق في العلاقات السعودية الإسرائيلية وتسريع وتيرة التطبيع بين إسرائيل وبعض دول الخليج العربي من دون كلفة سياسية على إسرائيل. غير أن الاتفاق على الورق أمامه عقبات كثيرة وكبيرة، حتى أصحاب المشروع لم يحدّدوا جدولا زمنيا واضحا للتنفيذ، أجّلوا الإعلان عن تفاصيل المشروع 60 يوما، ولا حدّدوا حجم مساهمة كل طرف من الشركاء في ميزانية المشروع التي ستكون كبيرة.

أولى العقبات وأكثرها دقة وحساسية انخراط دول مشاركة في الاتفاق الجديد في تكتلات اقتصادية متعارضة ومتصارعة، فالولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا أعضاء في مجموعة السبع، والهند والسعودية والإمارات في مجموعة البريكس، التي تضم الصين وروسيا، وتنخرط في صراع كسر عظم مع مجموعة السبع. ما سيعني توظيف الممرّ الجديد في خدمة تكتّل مجموعة السبع وتشكيله تحدّيا وعقبة أمام نمو الممرّات الأخرى وتطوّرها، ممرّ “الحزام والطريق” على وجه الخصوص، فحجم التجارة في المنطقة غير كاف لتحمل مشروعين، الغربي والصيني، في الوقت نفسه، وهذا سيضع تلك الدول في حرج مع الصين، خصوصا إذا نظرت بكين إلى المشروع الجديد أنه محاولة من دول الغرب لتقويض قدرتها على المنافسة عالميا، وإفشال مشروعها الذي تعول عليه في صعودها الدولي. وسيدفع الدول المشاركة في التكتليْن والممرّيْن في مواجهة الاختيار بين أحدهما، وهو ما حاولته الإدارة الأميركية مع شركاء المشروع من دون نجاح، أو النجاح في توليف صيغة لتكاملهما أو تحقيق توازن بين القوى والتكتلات المتنافسة من أجل تحقيق أهداف وطنية في مجالي السياسة والاقتصاد.

ثاني العقبات الهند نفسها ومدى النجاح الذي ستحققه في الحلول محلّ الصين في سلاسل التوريد، فالاقتصاد الصيني أكبر من الهندي بخمسة أضعاف، وتحتاج الهند إلى رأس المال الذي لا يستطيع القطاع الخاص الأميركي تقديمه، فالشركات الأميركية ترغب في الاستثمار، لكنها لا تريد تقديم المساعدة على طريقة الشركات الصينية. وهي (الهند) تعاني من ضعف في التنمية البشرية، يحتاج عدد سكان الهند المتنامي لكي يكون رصيدا اقتصادياً وليس عائقاً محتملاً، إلى التدريب، ومن انتشار الفقر على نطاق واسع، ومن معدّلات بطالة مرتفعة ومن نسبة أمية بين النساء والفتيات تتجاوز الثلث، فردم الفجوة بين الدولتين تحتاج إلى ما بين 15 و20 عاماً في ظروف مواتية، فالهند لا تستطيع تحقيق التوازن مع الصين وحدها؛ تحتاج لدعم كبير وشامل. وثالث العقبات الكلفة المالية، صحيحٌ أن الشركاء في الممر التجاري الجديد، باستثناء الأردن، التي تحتاج بناها التحتية إلى تطوير عميق، خصوصا بالنظر إلى الاقتصاد الضعيف، والذي يثقل كاهله استضافة أكثر من مليون لاجئ سوري، دول غنية وقادرة على تمويل المشروع وتوظيفه في توجّهاتها التنموية. ولكن من المحتمل أن تكون كلفة المشروع مرهقة، ويبدأ الخلاف على تقاسمها بين الشركاء. ورابع العقبات استفزاز المشروع أطرافا إقليمية وازنة، تركيا وإيران ومصر، عبر تجاهل مصالحها وعدم إشراكها في المشروع. قال الرئيس التركي أردوغان إن لا ممر من دون مشاركة بلاده. واعتبر مسؤولون إيرانيون المشروع خطراً على الموانئ الإيرانية وعلى ممرّ “شمال جنوب”، الذي يجمعها مع روسيا والهند، وأن البحث عن طرق بديلة “غير مبرّر على الإطلاق”. وسعت روسيا إلى إثارة مخاوف الصين، عندما اعتبرت المشروع موجّها ضد ممر “الحزام والطريق” الصيني تحديدا. ومصر التي ستتضرّر بسبب تراجع عائدات قناة السويس، أكبر مصدّر عملة صعبة للبلاد بلغت هذا العام تسعة مليارات دولار، لن تسكت عما سيحصل لها، وستسعى إلى الحصول على تعويض ما.

يمكن للممرّ الجديد، في حال تنفيذه في ظروف وشروط مواتية، أن يمنع مبادرة الحزام والطريق الصينية من الهيمنة على التجارة بين آسيا وأوروبا. لكن ذلك ليس مضمونا في ضوء العقبات المذكورة، وفي ضوء تنامي قدرات الصين على التنافس.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى