حراك السويداء… ما أشبه اليوم بالبارحة

محمود الريماوي

بصرف النظر، ولو مؤقتاً عن النوايا، جاء تعامل الحكم في دمشق مع احتجاجات السويداء مفاجئاً، إذ غاب الردّ العنيف على هذه الموجة التي شملت هذه المحافظة في جنوب البلاد التي تشمل المدينة وريفها، وبدرجة أقل محافظة درعا، وتتميز السويداء بسكانها ممن ينتمون إلى طائفة الموحّدين الدروز. أما الاحتجاجات نفسها فقد اتّسمت بدورها بالابتعاد عن مظاهر العنف، وعن إلحاق الأضرار بالممتلكات العامة والخاصة، واتسمت بعصيان مدني شمل إغلاق المحتجّين المرافق الرسمية غير الخدمية، بما فيها مقرّات حزب البعث الحاكم. وحتى كتابة هذه السطور، لم تعرف هذه الموجة، لحسن الطالع والتدبير، سقوط ضحايا أو مصابين، واتّسمت بطابع سلمي خالص. وإلى ذلك، اتسمت بطابع شعبي، بمشاركة سائر الأجيال فيها، مع مشاركة نسائية كثيفة، ما يدلل على العمق الاجتماعي لهذه الاحتجاجات، ولأن البيئات الدرزية تمنح للقيادات الروحية (مشيخات العقل) موقع التصدّر السياسي، لوحظ أن الشيوخ الثلاثة، حكمت الهجري، وحمود الحناوي، ويوسف جربوع، أيدوا معاً، في بيان مشترك، التحرّكات الشعبية، “في إعطاء الحقوق لأصحابها، ونيل العيش الكريم، الذي فقدت جل مقوّماته بسبب الفساد المتفشي، والإدارة الفاشلة، وترحيل المسؤوليات، واعتماد اللامبالاة منهجاً، وهو ما أهلك البلاد والعباد”. وذلك قبل أن يخرج أحد الشيوخ الثلاثة، وهو جربوع، ببيان منفصل، يدعو فيه إلى تغيير حكومي، وأن تكون قوى الأمن عوناً للمواطن، لا عوناً عليه. ثم استتبع ذلك بتصريحات أخرى، نأى فيها بنفسه وبموقعه عن الحراك الشعبي، وأعلن فيها انحيازه للحكم في دمشق. وظهرت أصواتٌ مندّدة بهذا التوجه، وبقي الشيخان الآخران على موقفهما في تبنّي الحراك، كما أن موجة الاحتجاجات لم تهدأ بعد انعطافة الشيخ جربوع.

ورغم أن كثرة من الناشطين صرّحوا في الشارع أمام المايكروفونات أن هذه الموجة الاحتجاجية لم تندلع درءاً لغائلة الجوع، بل هي تعبير عن جوع إلى الحرية والكرامة، غير أن الأيام التي سبقت هذه الهبّة قد شهدت موجة من الغلاء الرهيب مع ارتفاع أسعار الوقود، ما جعل مضاعفة الرواتب الشحيحة مقدّمة لمزيد من الإفقار. كما سبق بروز هذه الموجة الاحتجاجية في جبل العرب بروز أصوات ينتمي أصحابها إلى الطائفة العلوية، تندّد بسوء الأحوال الذي بلغ درجة مريعة، وقد برزت أصوات الناشطين، أحمد إبراهيم إسماعيل وأيمن فارس وماجد دواي، قبل اعتقال الأول والثاني. كما سبق اندلاع هذه الموجة ظهور حركة 10 آب التي قدّمت مطالب إصلاحية، ونشطت في البداية في مناطق الساحل السوري.

وليس سرّاً أن سوريين كثراً كانوا يأملون في أن يؤدّي التطبيع العربي مع الحكم في دمشق إلى بعض التغيير في السلوك الحكومي، من أجل التخفيف من الضائقة المعيشية الرهيبة، إذ لا تكفي الرواتب الحكومية سوى لتغطية نفقات يومين أو ثلاثة أيام حدّاً أقصى، لعائلة تضم أربعة أفراد، غير أن تغييراً نحو الأفضل لم يقع، وبقيت الأوضاع على حالها. وفي الإطار السياسي الأوسع، لم تظهر أية بوادر لمعالجة الملفات الأليمة المتعلقة بالإفراج عن عشرات الآلاف من المعتقلين، أو تسهيل عودة ملايين للاجئين من منافيهم، أو الإقرار بأهمية الحل السياسي المستند إلى قرار مجلس الأمن 4225، الصادر منذ ثمانية أعوام. وبينما تجري دعوة الدول العربية إلى تمويل لإعادة إعمار ما هدمته الطائرات والصواريخ، يجري استثناء إيران وروسيا من هذه الدعوة، رغم مشاركة البلدين المشهودة والكثيفة في الحرب، وفي التدمير الواسع النطاق للمدن والبلدات. ومع حالة اليأس من تحسّن الأوضاع، اندلعت الانتفاضة السلمية لمحافظة السويداء، بعيداً عن أي مظهر فصائلي مسلح، وعن أي استهداف للمسؤولين والأفراد الرسميين، من مدنيين وعسكريين، وهو ما نزع أية ذرائع لاستهداف هذه الموجة الاحتجاجية، فضلاً عن أن هذه الموجة تمثل بيئة الأقليات في بلدٍ متنوّع ديمغرافيا. ولطالما زعم الحكم أنه يحمي هذه الأقليات، وربما لهذا قام بالتنكيل الجماعي بالأكثرية وتشريدها (تراجع عدد المسيحيين من 2.2 مليون نسمة خلال عام 2011 إلى نحو 700 ألف نسمة في العام الجاري)، فضلاً عن الحسابات الرسمية بشأن مخاطر استهداف المحتجّين بالنيران، فقد بدأت الكارثة في سورية في مارس/ آذار 2011 بإطلاق النيران على المحتجّين، وهو ما أدى فيما بعد إلى التداعيات التدميرية.

لا يمكن التنبؤ بما ستؤول إليه هذه الموجة الاحتجاجية، غير أنها كشفت، بعد مضي أسبوعين على انطلاقها، عن موجة تذمّر عميقة تسود سائر الأوساط الشعبية من دون استثناء أية منطقة أو بيئة، وذلك مع ازدياد الخناق على الوضع المعيشي، واشتداد المحاذير من زيادة تدهور الوضع الصحي. ويفاقم من ذلك اضطراب حبل الأمن، وغياب القانون، مع استقالات واسعة من القطاع الحكومي العام، إذ لم يعد الموظفون يملكون ثمن أجرة الانتقال من منازلهم إلى مؤسّساتهم ودوائر أعمالهم.

أمام هذا الوضع الكارثي، بدا اندلاع الاحتجاجات أمراً متوقعاً، كما بدا متوقّعاً أيضاً ضعف المشاركة الشعبية في العاصمة دمشق، إذ وفقاً لشخصية سياسية تقيم في دمشق (أحمد العسراوي)، فإن أعداد الشبان في العاصمة في تناقص مستمر، فأفراد هذه الشريحة إما لقوا مصرعهم، أو أنهم مجنّدون أو معتقلون أو مشرّدون أو مصابون أو نازحون إلى الشمال الغربي أو مهاجرون في بقاع الأرض. والشبان هم من ينشطون في الاحتجاجات. ومع ذلك، تسود حالة الاحتقان الشديد مع الاستنفار الأمني الواسع سائر المناطق، وذلك في عودة إلى أجواء مارس/ آذار 2011 التي شهدت بداية انطلاق موجة احتجاجات عارمة.

ولكن هذا كله لا ينفي احتمالات متشائمة، من قبيل تسلل أفراد من تنظيم داعش الإرهابي تحت جنح الظلام إلى محافظة السويداء، أو أن يعمد حزب الله إلى مثل هذه المحاولة، مخافة خسارة قواعده ونفوذه في سورية، وكان الأمين العام للحزب حسن نصر الله قد وصف حراك السويداء الشعبي بأنه “مؤامرة”، وهو وصفٌ يتسق مع مناهضة الحزب كل تحرّك شعبي في سورية… وهذه المحاذير ماثلة في أذهان جموع المحتجّين.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى