سؤال المصير وبؤس النخب السورية

معقل زهور عدي

فجر كتاب الدكتور برهان غليون نقاشًا واسعًا بين النخب السياسية السورية، حسنا، هذا ليس سيئا، لكنه أظهر مدى هشاشة البنية الفكرية لتلك النخب وتصلب تلك البنية , فهي قد اعتادت على الإستناد لموضوعات محددة في التفكير معتبرة ذلك تقدما فكريا , مستوى أعلى , واعتبرت أن ماجاء به الدكتور غليون هو ارتداد للمستوى الأدنى , لتفكير الخمسينات من القرن الماضي , دون أن تفكر بماهية المستوى الأعلى الذي تتمتع به .

وفي الحقيقة ليس المستوى الأعلى سوى تفلسف موروث من الماركسية على وجه التحديد , وهو تفلسف أدار ظهره للماركسية على الصعيد السياسي متوجها نحو ليبرالية علمانية متشددة , بعد أن ” تحررت ”  من أي ارتباط بالتاريخ الذي يوصف بالماضي , في النهاية نحن أمام أتاتوركية بطبعة سورية .

الردة التي وصف بها كتاب الدكتور غليون تعكس عقائدية تلك النخبة ,  فهي ليست سوى تهمة الارتداد ذاتها التي اختبرناها لزمن طويل لدى التيارات المتشددة.

فماذا فعل الدكتور غليون ليوصف بالكفر والردة ؟

ببساطة مافعله أنه تجرأ وحاول وضع مسألة مركزية في الفكر السياسي على طاولة البحث العلمي التاريخي بدل وضعها على طاولة التفلسف الليبرالي الذي اعتادت عليه النخب السورية حتى أصبح عقيدة عندها .

تتلخص المسألة في الآتي : هل صحيح أن تدين الشعوب العربية ومنها الشعب السوري وقف حاجزا أمام الحداثة والتقدم ؟

ويمكن طرح السؤال أيضا كالتالي : هل صحيح أن سبب فشل مشاريع الحداثة في التاريخ العربي الحديث يكمن في بنية العقل العربي الدينية المغلقة ؟

وفي محاولة الإجابة على ذلك السؤال لجأ الدكتور برهان للبحث التاريخي – الاجتماعي بدل لجوئه للتفلسف وحل المسألة ضمن ذلك الإطار المغلق .

هذه هي الجريمة التي ارتكبها الدكتور برهان غليون , فلماذا يخرج إلى البحث العلمي التاريخي ؟

والأفدح من ذلك أنه توصل إلى أن تجارب الحداثة العربية منذ مئتي عام لم تنتكس بفعل ممانعة داخلية للعقل العربي لكن بفعل تدمير خارجي مفضوح لدرجة لايحتاج معها للكثير من الجهد  لاكتشافه وتحديده كسبب مباشر .

حسنا , إذا كنتم تعتقدون أن الدكتور برهان لم يورد من الأمثلة التاريخية مايكفي لمثل ذلك الإستنتاج فقولوا لنا لماذا ليست تلك الأمثلة غير كافية .

بل قولوا لنا في كل مثال قدمه وناقشه بالتفصيل أين هو الخطأ في ذلك المثال .

قولوا لنا مثلا إن تجربة الحداثة لدى محمد علي باشا لم يدمرها الغرب ولكنها تدمرت بسبب كذا وكذا من الأمور المرتبطة بالعقل الجمعي العربي وتمسكه بمفاهيمه القديمة .

لا أحد يرغب في الدخول بهكذا سياق من النقاش , فهو بالدخول فيه يخرج عن العقيدة نحو العلم التاريخي وهذه ردة !

ثم إن ما أتى به الدكتور غليون يفتح الباب أمام التسامح مع الأفكار التي تنتمي للتراث العربي – الاسلامي وهذه ردة أيضا .

لكننا نحن المثقفين السوريين أقمنا هيكلنا العقائدي على الليبرالية العلمانية التي تخفي العداء المطلق لكل ماهو عربي أو إسلامي فكيف نفتح لهم نافذة يعاودون الدخول عبرها بعد أن أقفلنا بوجههم الباب .

والدكتور برهان لم يكفر فقط لأنه وضع التفلسف الليبرالي جانبا في كتابه لكنه كفر أيضا بالعودة لمفهوم مثل العرب بدلا عن شطبه من القاموس .

يمكن لنا نحن الليبراليين السوريين أن نتقبل أن تقوم أكاديمية أمريكية ببحث معمق حول العهد الفيصلي الذي يعتبر فجر تكون الدولة السورية وتستنتج فيه أن الإحتلال الفرنسي هو المسؤول عن تدمير تجربة الحداثة والديمقراطية العربية في سورية , يمكن لنا أن نتغاضى عن ذلك مادامت أكاديمية أمريكية تكتب باللغة الانكليزية ولا ترمي حجرا في مستنقعاتنا , كما يمكن لنا أن نتغاضى عن عنوان كتابها ” كيف سرق الغرب تجربة الديمقراطية من العرب ” هذا العنوان الذي لايتفق أبدا مع عقيدتنا , لقد كان عليها أن تستنج أن العقل العربي الجمعي هو المسؤول عن فشل تلك التجربة أولا , وكان عليها أن لاتقول ” من العرب ” ولكن من “السوريين “.

مع ذلك فنحن تسامحنا معها , لكن أن يلجأ مفكرسوري بارز كبرهان غليون للبحث العلمي التاريخي أيضا كما فعلت اليزابيث تومسون ثم يخرج بمثل ماخرج به فذلك ما لانستطيع تحمله .

مسكينة سورية , فعوضاً عن أن تهتم نخبتها السياسية – الثقافية بنقد تجربتها الفاشلة الأخيرة في الثورة السورية , اذا بها تختفي وتنام حتى يوقظها كتاب الدكتور برهان لالتدرسه وتناقشه بروح علمية وعقل منفتح ولكن بعقلية مغلقة معزولة هي ذاتها وراء فشلها في مواكبة الثورة السورية والالتحام مع الشعب .

زر الذهاب إلى الأعلى