قنبلتا هيروشيما وناغازكي… “هديّة من الآلهة”

جورج عيسى

هل كان بالإمكان دفع اليابان إلى الاستسلام من دون إلقاء قنبلتين نوويّتين؟ هذا هو السؤال المركزيّ الذي شغل الرأي العام والقادة الأميركيّين منذ السنوات التي تلت 1945. يقوم هذا السؤال بشكله الأبسط على المفاضلة بين خيارين سيّئين: تكبيد القوّات الأميركيّة خسائر بشريّة هائلة وهي تخوض حرب استنزاف ضدّ عدوّ يابانيّ مستشرس مقابل حماية أكبر للمدنيّين اليابانيّين، أو تجنيب واشنطن هذه الخسائر مقابل إلحاقها باليابانيّين، والمدنيّين منهم على وجه التحديد. لكنّ أحد الباحثين في تاريخ الحرب العالميّة الثانية يعيد صياغة هذه المفاضلة: لم يكن التخيير، كما تبيّن لاحقاً، بين استنزاف اليابانيّين أو الأميركيّين. لقد كان إلى حدّ بعيد، تخييراً بين استنزاف اليابانيّين واستنزاف… اليابانيّين.
كيف؟
في حزيران (يونيو)، عرض مؤلّف كتاب “الطريق إلى الاستسلام: ثلاثة رجال والعدّ التنازليّ إلى نهاية الحرب العالميّة الثانية” (16 أيار 2023) إيفان توماس زاوية جديدة لحسابات الأميركيّين وتفكير اليابانيّين في ذلك الحين. يستند هذا المنظور إلى مراسلات ومذكّرات وسير ذاتيّة لكبار صنّاع القرار البارزين في الولايات المتحدة واليابان. عنوان المقال الذي تمّ ضبطه من الكتاب يعطي صورة أوّليّة عن مسار تحليل الحدث: “القنبلة كانت مرعبة. البدائل أمكن أن تكون أسوأ”. لكنّ الخلاصة كانت أكثر جذريّة حتى.
كتب توماس أنّ معظم الأميركيّين وافقوا في البداية على استخدام القنبلتين، حتى أنّ بعضهم تمنّى لو أنّ الجيش الأميركيّ أسقط المزيد. والملايين من المحاربين الذين عادوا إلى ديارهم ورؤية عائلاتهم كانوا ممتنّين لتجنّب الغزو. تغيّر الأمر بعد تقرير مطوّل لـ”نيويوركر” في آب 1946 والذي وصف لأوّل مرّة معاناة ستّ ناجين ومن بينها الآثار القاتمة للتسمّم الإشعاعيّ. أطلق التقرير عاصفة من ردود الفعل. قرّر أحد اللاعبين الأساسيّين في “مشروع مانهاتن” الذي طوّر القنبلة جيمس كونانت الاستعانة بوزير الدفاع هنري ستيمسون الذي أمر بإلقاء القنبلة، كي يدافع عن القرار.
نجاح موقّت
دافع ستيمسون عن القرار مشيراً إلى حشد اليابانيّين نحو مليون رجل وآلاف الانتحاريّين (مقاتلات وطوربيدات وزوارق…) تحسّباً للغزو الأميركيّ لكيوشو التي تمثّل ثالث أكبر جزيرة يابانيّة. كان من المتوقع أن تكون الكلفة عدة مئات الآلاف من القتلى أو الجرحى الأميركيّين. كتب ستيمسون أن إلقاء قنبلتين ذرّيّتين كان “الخيار الأقلّ بغضاً”. المقال الذي نشرته مجلّة “هاربر” في عدد شباط (فبراير) 1947 ظهر عنوانه على الغلاف: “هنري إل. ستيمسون يشرح لماذا استخدمنا القنبلة الذّرّيّة”.
نجح ستيمسون في نشر هذه السرديّة على نطاق واسع إلى أن بدأ علماء تنقيحيّون بتسليط الضوء على بعض الثغرات في القصة. لاحظوا أنّ ستيمسون قد تستّر على حملته المتذبذبة للتخلّي عن الاستسلام غير المشروط والسماح لليابانيّين بالاحتفاظ بإمبراطورهم، وأنّه حذف مناقشة إدارة ترومان لاستخدام القنبلة الذرّيّة كرافعة في مواجهة مع السوفيات.
على أيّ حال، كان ستيمسون نفسه غير مرتاح لدوره كمدافع عن القنبلة الذّرّيّة حتى قبل تعليق التنقيحيّين، كما يوضح توماس. اعترف في رسالة إلى أحد أصدقائه أنّه نادراً ما “حملتُ هذا المقدار الكبير من الشكّ حتى اللحظة الأخيرة (لما قبل نشر ورقتي)”، كما حصل مع المقال في “هاربر”.
كان بإمكان العالَم أن يربح
شعر ستيمسون بالقلق أكثر عندما ذكّره القائم الأسبق بأعمال وزير الخارجية جوزف غرو بأنّ السفير الأسبق في طوكيو حثّ الرئيس الأميركيّ آنذاك هنري ترومان في أيّار (مايو) 1945 على عرض صفقة على اليابانيين: الاستسلام مقابل الاحتفاظ بالإمبراطور. كان ستيمسون متعاطفاً مع اقتراح غرو لكنّه قرر أنّ تقديم الشروط في وقت مبكر هو إظهار للضعف. جادل غرو بأنّ ستيمسون وحتى خلفه في وزارة الخارجيّة جيمي بيرنز قد فوّت فرصة لتحقيق السلام قبل إسقاط القنبلة الذّرّيّة. وكتب: “ربما أمكن ألّا يتمّ استخدام القنبلة الذرّيّة على الإطلاق” و”كان العالم ليكون الرابح”.
لمدّة ستة أشهر، لم يردّ ستيمسون على غرو، قبل أن يرسل إليه ردّاً موارباً بشكل غير معهود. لكن في مذكّراته التي نُشرت سنة 1948، توقّع ستيمسون بشكل خفيّ ما سيعلنه التنقيحيّون لاحقاً عن أنّ “التاريخ قد يجد أنّ الولايات المتحدة، بتأخّرها في إعلان موقفها (من أنّ اليابان يمكن أن تحتفظ بإمبراطورها)، قد أطالت أمد الحرب”.
في السنوات اللاحقة، قال رجلان مقرّبان من ستيمسون كيف اكتشفا أنّ الأخير شعر بأكثر من مجرّد وخزات قليلة من الأسف حيال قرار إسقاط القنبلة الذّرّيّة.
فهل كان شعور ستيمسون بالذنب في محلّه؟
الجواب القصير، بحسب توماس، هو لا. يتّضح من مذكّرات وسجلّات الرجال الذين حكموا اليابان، بالإضافة إلى الاتصالات السلكيّة بين وزير الخارجية شيغينوري توغو والسفير في موسكو ناوتاك ساتو، أنّ الحكومة اليابانيّة لم تكن قريبة حتى من الترحيب بالشروط التي اقترحها غرو في أيار 1945. ربّما يكون توغو قد استمتع بالعرض والإمبراطور وكبار مستشاريه، وبشكل أساسيّ كويتشي كيدو، قد بدأوا بالبحث عن بديل لهرمجدّون. لكنّ القادة العسكريّين اليابانيّين الذين كانوا يسيطرون بالفعل على اليابان بموجب دستور ميجي كانوا مصمّمين على خوض “معركة حاسمة” نهائيّة وشاملة لاستنزاف الغزاة الأميركيّين حتى يتقدّموا بطلب السلام.
لم يكن الجيش اليابانيّ يريد الاحتفاظ فقط بالإمبراطور لكن أيضاً تجنّب احتلال الحلفاء ونزع سلاح اليابان ومحاكمات جرائم الحرب. ولم يكن هؤلاء الرجال مخدوعين تماماً. لم يحاول أيّ جيش على الإطلاق القيام بإنزال على شاطئ يدافع عنه ملايين الأشخاص المستعدّين للموت. لو اضطرّت الولايات المتحدة للغزو لتحوّل الأمر إلى حمّام دم ما استطاع الشعب الأميركي تحمّله حتى قبل أن يستسلم اليابانيّون المحاصرون في نهاية المطاف.
البديل عن الغزو… وعن القنبلة
القنبلتان أنقذتا الأرواح. لكنّ مقالة ستيمسون خاطئة بطريقة واحدة ملحوظة وفق توماس. في النهاية، ربّما لم تنقذ القنبلتان حياة الجنود الأميركيّين والحلفاء لسبب بسيط هو أنّهم لم يكونوا معرّضين للخطر أساساً. من المستبعد جداً أنّه كان بالإمكان تنفيذ غزو كيوشو الذي كان مقرّراً في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) من تلك السنة تحت أيّ ظرف.
بحسب العقيدة العسكريّة المقبولة، يجب أن تتمتّع القوة البرمائيّة بتفوّق عدديّ على المدافعين بنسبة ثلاثة إلى واحد، من أجل تحقيق إنزال ناجح على الشاطئ. كما أوضح مؤرّخ حرب آسيا والمحيط الهادئ ريتشارد فرانك، بحلول بداية آب (أغسطس) 1945، أظهر اعتراض الاتّصالات أنّ ميزة اثنين إلى واحد أو ثلاثة إلى واحد التي تمتّعت بها القوّات الأميركيّة في البداية تقلّصت إلى واحد لواحد أو أسوأ. على الرغم من أنّ القائد الأعلى للحلفاء الجنرال دوغلاس ماك آرثر رفض بعناد أو بلا مبالاة المعلومات الاستخباريّة التي تشير إلى تعزيزات يابانيّة ثقيلة، كان الأميرال إرنست جي كينغ، رئيس العمليّات البحريّة، يتراجع بسرعة عن موافقته الموقّتة على الغزو. حتى رئيس أركان الجيش جورج سي مارشال كان يبحث بقلق عن حلول بديلة بما فيها استخدام أسلحة نوويّة متعدّدة في ساحة المعركة. بدلاً من غزو اليابان، تابع توماس، كانت القوات الأميركيّة، على الأرجح، ستجوّع الشعب اليابانيّ.
أنقذتا ملايين اليابانيّين
كانت خطة الجنرال كارل سباتز الجديدة هي اللجوء إلى قصف دقيق يستهدف شبكة السكك الحديديّة اليابانيّة التي تنقل الأرزّ إلى سهل كانتو حول طوكيو حيث يعيش الكثير من السكّان اليابانيّين. بحلول آب 1945، عاش معظم اليابانيّين على وجبات هزيلة. بحلول عيد الميلاد، وسط حصار خانق، كان ملايين اليابانيّين سيجدون أنفسهم يتضوّرون جوعاً حتى الموت. ليس هذا وحسب. إنّ الجيش اليابانيّ الذي تمتّع بمخزون من الطعام أمكن أن يكون آخر من يموت جوعاً.
في أكثر السيناريوهات احتمالاً، كانت اليابان ستغرق في الفوضى والحرب الأهلية، مع تحريض انتهازيّ من الروس الذين غزوا سخالين وجزر الكوريل شمال اليابان في أواخر آب وأبدوا طموحات أكبر، حتى ضغط عليهم ترومان للتراجع. بمجرد بدء الاحتلال الأميركيّ، قام ماك آرثر بتسليم آلاف الأطنان من الطعام لليابانيّين الذين يعانون من سوء التغذية.
لم تنتهِ القصّة
لم تنقذ القنبلتان الذريتان الآلاف وربما الملايين من أرواح اليابانيّين فقط، ولكنّهما أنقذتا أيضاً حياة المزيد من الآسيويّين خارج اليابان. تحت حكم الجيش الإمبراطوريّ اليابانيّ الذي لا يرحم، كان الصينيّون، وسكان جنوب شرق آسيا، والإندونيسيّون يموتون بمعدّل ربّما يصل إلى 250 ألف شخص شهريّاً. سيكون من المروّع تخيّل الواقع المرير الذي كان ليغمر مناطق شاسعة من منشوريا إلى بورنيو لو استمرّت الحرب بحسب توماس.
بكلفة باهظة، نجحت القنبلتان في تفادي كارثة أكبر بكثير. ومن المرجّح أيضاً أنّ الأمر استلزم كلتا القنبلتين، فضلاً عن الغزو السوفياتيّ لمنشوريا، كي تزعزع العزيمة المتطرّفة للجيش اليابانيّ وإقناع الإمبراطور في النهاية بقضية السلام إلى جانب الحفاظ على نفسه.
ماذا لو اكتفت بتفجير قنبلة واحدة؟
ربّما كانت قنبلة واحدة كافية لإقناع الإمبراطور، لكنّ الأمر استلزم قنبلتين على الأقلّ لجعل الجيش الياباني يدرك أنّ التهديد بمزيد من القنابل يقدّم عذراً يحفظ ماء الوجه للاستسلام – “هديّة من الآلهة” كما أضاف توماس. بل إنّه من المؤكّد أكثر أنّ تفجير القنبلة الذرّيّة لاستعراض القوّة والتهديد، حتى ولو كان عمليّاً، أمكن أن يفشل في إثارة اهتمام أمثال وزير الحرب اليابانيّ كوريشيكا أنامي.
على الرغم من أنه تلقّى تلميحاً من حركة المراسلات التي تمّ اعتراضها، لم يكن لدى ستيمسون أيّ وسيلة لمعرفة مدى التعنّت الياباني. ربما كان يتخيّل أنّ هناك ليبيراليّين سرّيّين إلى جانب توغو وحفنة من البيروقراطيّين أصحاب العقول السلميّة. “لكنّ التاريخ أثبت له أنّه على حقّ في كون صدمة قويّة فقط هي التي يمكن أن تجعل اليابان تستسلم”.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى